ومن القضايا التي اعتنقها بعض النقاد وآمن بها دون فهم دقيق وإجراء صحيح، فصارت وبالاً عليه فجعلته وبعض النقّاد ينحرفون عن مهمتهم الأساسية في مماراستهم النقدية القول بِمُطلق الشكِّ في (اللغة)، كما يذهب إلى ذلك المنهج التفكيكي الذي يتخذ من التشكيك في العلاقة بين الدالِّ والمدلول مبدأً لا يُمكن التنازل عنه في الممارسات النقدية، حيث لا يلزم أن يكون للفظ في النص معنى معروف به، ومتَّفق عليه، بِمعنى أنه لا يوجد أيُّ مرجعيَّةٍ يُرجع إليها في ذلك، بل تبقى هذه العلاقة مشكوكاً فيها، ولا يَحِقُّ تفسيرها إلا للناقد الذي يُحاول تفسير هذا العمل الإبداعي، وما دام الأمر كذلك فلا ضير أن يعبث بِهذه العلاقات، ولا مانع أن يفسرها حسب ثقافته وأهوائه، ومن ثَمَّ السير بالنص نَحو هاوية الطلاسم، ونِهاية الهذيان؛ لأنه لا مرجعيَّة حتميَّة للغة الأدبية يُحتكم إليها في إعطاء القارئ تفسيراتٍ واضحة، ومعانٍ يُطمئَنُّ إليها، ومدلولاتٍ يُعتمد عليها، كي يتمكَّن من الخروج بِحكمٍ نقديٍّ واضحٍ وصريحٍ على قيمة هذا الخطاب الإبداعي.
ومنها افتراض قارئٍ مثالِيٍّ قادرٍ على فكِّ مغاليق النص، غيرَ تابعٍ لطبقةٍ معينة، أو جنسٍ مُحدَّد، أو دولةٍ ينتمي إليها، وأن يكون مُتحرِّراً من أية خصائص أقوامية، أو افتراضات ثقافية مُقيَّدة، والمعضلة الكبرى أنَّ هذه المناهج تعترفُ أنَّ هذا النوع من القُرَّاء يستحيل وجوده، ولا شكَّ أنَّ الإيمان بِهذه الرؤية يَجعل القارئ غير مُوقنٍ بفهمه للنص، وغير مُتأكِّدٍ من صِحَّةِ تفسيره؛ لأنَّ هذه الشروط لا تنطبق عليه، ومن ثَمَّ يَجدُ نفسه مُضطرَّاً إلى الاستعانة بِهؤلاء النقَّاد الذين اخترعوا هذه الكذبة وصدَّقوها وطبَّقوها، ولا يَجدُ إلا التسليم بِما يقولونه، والخضوع لِما يُنتجونه من تفسيرات وتأويلات، حتى لو كانت هرطقاتٍ ليس لها أي علاقة لَها بـالنص المعالج.
وأظن أنَّ من أهم الأفكار والأسس التي جعلت بعض النقاد يتجاهلون داعي النص ويغفلون عن جمالياته إيمانهم بفكرة رسّختها بعض المناهج النقدية كالبنيوية، وهي أنَّ الأعمال الأدبية لا تَمتلك معنى أحادياً، وهذا الإلحاح على تعدُّدية المعاني في نصٍّ معين -كما يقول (آن جفرسون) - هو النتيجة المنطقية لغياب كُلِّ قصدٍ للمؤلف في الأدب، وفتح الطريق للتخلُّص من فكرة وجود معنى مركزي للنص، فبانعدام أيِّ دليل على المقاصد يستحيل عادةً التقليل من الالتباسات التي تَحفل بِها حتى لغتنا اليومية، وواضحٌ ما تنشئه هذه الرؤية من جُسورٍ للعبث بالنص، وتشويهٍ لِما يُمكن أن يَحمله من دلالات.
مع التأكيد في هذا السياق على أنَّ التعدُّدية في المعاني غير مرفوضة، بل إنَّها مِمَّا يدلُّ على بُعد نظر الناقد وثراء النص، إلا أنَّ المرفوض هنا هو المبالغة في فتح الباب لكلِّ أحدٍ في قول ما يَحلو له؛ بِحُجَّة جواز التعدُّد، دون أن يكون هناك مرجعيةٌ واضحة ومُنطلقٌ صحيح، يعتمد عليها الناقد في استكناه الدلالات التي يَحملها الخطاب الإبداعي.
ومن المنطلقات المناهج النقدية الغربية الحديثة التي تأثر بها بعض نقادنا فجعله ينتهج هذا النهج فيبتعد عن مهمته الحقيقية والأساس: طبيعة رؤيتهم للغة النقد التي تقوم على التقديس والتبجيل، والنظر إليها بـنوع من الإجلالٍ والتعظيم، وأنَّ هذه اللغة التي يُكتب بِها النقد لا بُدَّ أن تسير بِخَطٍّ مُتوازٍ مع النصِّ الأدبي من ناحية الإبداع؛ ولذلك فلا مَجال لتحقيق ذلك سوى الانحراف عن المهمة الواضحة، والابتعاد عن الوسائل التقليدية لنقد الخطاب، والاتجاه نحو الغموض والإبهام، وإتخام القراءة النقدية بِمجموعةٍ من الألفاظ والعبارات والمصطلحات الموغلة في الغرابة والتعقيد والإيهام، حتى يُمكن أن تَحصل هذه اللغة على نصيبها من الاهتمام؛ حتى تظلّ الممارسة النقدية حاضرةً غير متواريةٍ أمام إبداع النص الذي ينبغي ألا يسرق الأضواء منها، ومن هنا تخرج لنا الفتوحات العجيبة والتحليلات الغريبة التي يتبرأ منها النص والنقد والمبدع والقارئ الحصيف.