نشأ التيار الباسيفيكي في خضم الصراع المرير بعد الحرب العالمية الثانية بين القوى المنتصرة في الشرق والغرب، وعلى وجه الخصوص بين معسكر حلف الناتو الغربي ومعسكر حلف وارسو الشرقي. وجاءت التسمية نسبة إلى المحيط الهادئ (Pacific) لكونه الأكبر الذي يربط بين جزئي العالم الشرقي والغربي من الجهة الأخرى غير القارية، كما كان هدف هذا التيار الوصول إلى السلم العالمي، وهو الذي أصبح طريقة تفكير ومذهباً سياسياً عقائدياً.
أما التيار الأممي، فهو مذهب فكري إحيائي أنشأته بعض الحركات الإسلامية بدءاً من جماعة الندوي والمودودي ومروراً بحركة الإخوان المسلمين والفصائل العقائدية أو الجهادية وانتهاء بالمكونات الحالية من جماعات: جيش محمد وأنصار السنة وأنصار الشريعة والنصرة ... إلخ، وليس أقلها «الدولة الإسلامية»، التي يحشد لها العالم الآن تحالفاً من قرابة 60 بلداً لمحاربتها، والتي تسعى جميعها إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتكوين «الأمة الإسلامية» من جديد. وهو تيار – كما يعرف كثير من القراء – يعمد إلى العنف والقتل وإقصاء كل من يختلف معه؛ فهو معاكس تماماً لفكر الباسيفيكيين.
وكنت أثناء التفكير في الكتابة عن التيار الباسيفيكي ومقارنته بالتيار الأممي، قرأت مقالة للكاتب المبدع محمد المحمود بعنوان: «ما بعد الخطاب الأممي .. الوطن أولاً». وإن كنت أتفق معه تماماً في الشق الأخير من كون الوطن يأتي أولاً عند أي شخص يملك فطرة سليمة؛ لكني لا أشاطره التفاؤل في إمكانية تعديل الخطاب الأممي، ولا حتى في الانطلاق من أننا في مرحلة قريبة مما بعد الخطاب الأممي. أعرف أن بيئة نشأة هذه الأفكار عند الأستاذ محمد المحمود، وآخرين كتبوا خلال هذه الفترة، منطلقة من الأثر النفسي للحادثة الإرهابية في منطقة الأحساء. وقد أعرب كثير من الكتاب والمواطنين والمحللين عن خيبة أمل المخططين لهذه الجريمة؛ والجميع بلا شك يتفقون على أنهم لم يحصلوا على مرادهم من إشعال الفتنة بين الطائفتين المتصالحتين في هذه المنطقة بشكل عام.
وسأكون أكثر صراحة في التحليل بعد الارتياح من هول الصدمة، وتجاوز محنة هذه الحادثة؛ نعم الإرهابيون ومن خطط لهم من خارج البلاد أو داخلها لم ينجحوا في إثارة الفتنة، وكان العامل الحاسم في عدم نجاحهم التحرك السريع لقوى الأمن ومن يدعمهم من استخبارات، وخلف ذلك بالتأكيد قرار سياسي فاعل، جعلهم يرخصون أرواحهم في سبيل تخليص الوطن من خطر هذه الفئة الشريرة. لكن الأهم لم يعمل إلى الآن، أو على الأقل لم يعلن إن كان يطبخ على نار هادئة؛ وهو بحاجة إلى أن يُعلن وبنفس سرعة التحرك والاحتواء الأمني. ما أراه غائباً إلى الآن هو أن تتفاعل المؤسسات العامة جميعها مع الحالة كما ينبغي، لأجل وأد أي محاولات قادمة، لأن أصحاب الشرور لن ييأسوا بسبب فشل هذه المحاولة. وكيف يكون تفاعل المؤسسات الحكومية مع ما يمكن أن يُطلق عليه مساس بأمن الوطن ومكوناته؟
أولاً: لا بد من الاعتراف بأن الحادثة لم تزد الهوة بين الطائفتين بشكل عام بين الطائفتين، كما ذكرت أعلاه، لكن هذا لا يعني عدم وجود أعداد ليست قليلة لدى الطرفين، يشككون في نوايا الطرف الآخر، وهم ليسوا أكثرية بطبيعة الحال، لكن إذا وصلوا إلى هذه النسبة، فإن الوضع يصبح قابلاً للانفجار. ثانياً: أن تقوم المؤسسات المعنية كل فيما يخصها، بتجسيد المواطنة المدنية بالدرجة الأولى، واستغلال الزخم الإيجابي الحالي لتفعيل هذا المقصد النبيل. ولا أظنه يغيب عن بال الحريصين على اللحمة الوطنية، لكن السرعة والجذرية مطلوبتان في إبعاد مصادر القلق عن المؤسسات العامة، ثم بناء هياكل انتماء جديدة وقوية.