إننا نؤمن بالخطاب من خلال الإيمان بصنّاعه وناقله، ومن هنا تبدأ صناعة القديس.
إن صانع الخطاب و»الناقل الظاهري» هما ممثلان له شكلاً ولغة ومواقف؛ لأن الإيمان بالخطاب لا يتحقق إلا عبر الإيمان والاقتناع بهما، ومتى ما فقدا إيمان الوعي الجمعي لهما فقد الخطاب مصداقيته وهُددت سلطة مشيئة وفاعلية تمكينه.
المسألة ها هنا تتعلق بطبيعة تكوين الإدراك الذي يمثّل له المرئي شاهد صدق ويقين، فالحسية هي القاعدة التي يعتمد عليها الفكر والمعرفة لأن المرئي غالباً هو نموذج للتمثيل سواء من خلال الكيفية أو المطابقة و معادل للحقيقة ومؤسِس لقانون، وبذلك يتحول الشاهد المرئي على مستوى التمثيل والحقيقي والقانون إلى أيقونة تفعيلية للتصور الثقافي عند المرء.
والمرئي من الخطاب والمؤسِس لتمثيلاته وحقيقته وقانونه هما صانع الخطاب وناقله.
ولذلك تُعدّ صناعة «الفاعل المؤثِر» - الصانع والناقل - أو «تشخيص المقدّس» هي أساس تمكين الخطاب الذي يهدف إليه خطاب القصدية من خلال محاضن خاصة به قبل أن يُوكِل لذلك الفاعل وظيفة تشكيل الوعي الجمعي.
إن «تشخيص المقدّس» ليس بالأمر الجديد فهي إستراتيجية ذهنية قديمة منذ صناعة الأوثان والأصنام، ولو عدنا إلى تلك الصناعة لوجدنا أن الوثن والصنم ما هما سوى «تشخيص للخطاب المقدّس» عبر الإنساني الكامل.
إن فكرة «الكمال» التي تُعدّ أساس «تشخيص المقدّس» وصناعة القديس تتغيّر صورها وفق تطور الزمان والمكان والوعي الجمعي.
فالجاذبية في زمن هيمنة الصورة أصبحت جزءاً من ذلك الكمال، واستتبع بالضرورة تلك الجاذبية عنصر الكمية المرتبط تفوقه بتوسيع القاعدة الجماهيرية،كما أن التفوق العرضي للقاعدة الجماهيرية يسهم في تشكيل مدى مساحة النجومية.
وبذلك يُمكن القول إن «الكمال» المقصود به لتفعيل «تشخيص المقدّس» يقوم على ثلاثة أسس؛ الجاذبية والجماهيرية والنجومية.
وهي أسس خفّفت من مركزيّة «عامل التقوى»، بل وتكثيفها أفاد في «تقليل أثر خطأ حامل تشخيص المقدّس؛ من خلال التبرير الشافع للخطأ عبر تحويل مقاصده، وهو تبرير داعم دوماً لفكرة «عصمة القديس المبارك».
وها هنا علينا أن نبين أن حامل تشخيص المقدس ينقسم إلى قسمين وفق التوصيف الوظيفي لهما، وهما «صانع الخطاب، والناقل الظاهري للخطاب»، وكل له وظيفة أدائية،كما أن كليهما يقومان بثائية وظيفة؛ فيمكن أن يصبح الصانع للخطاب ناقلاً له، ويمكن أن يتحول ناقل الخطاب إلى صانع له، وصانع الخطاب هو ناقل له في الأساس، أي كل صانع للخطاب هو ناقل سابق له، ولكن ليس كل ناقل للخطاب هو صانع سابق له بالضرورة، وسأحلل كلا النوعين، والبداية أولاً مع ناقل الخطاب.
ليس بالقول المبالغ إن قلت إن الجاذبية الاتصالية التي يحققها خطاب القصدية غالباً ما تعتمد على «ناقل ذلك الخطاب».. ولذلك عليه أن يتميز بصفات خاصة جداً وتلك الصفات تقريباً تتوازى مع صفات الخطاب، أي؛ التقدير والمحبة والمصداقية والمثالية والمعلومية والوضوح الأمن والتوافق والتطابق والاندماج مع الجماعة بالمشاركة والتعايش والنجوميّة.
يعتمد خطاب القصدية في صناعة فاعله المؤثِر أو الناقل الظاهري لخطاب القصدية على تحويله إلى «رمز مقدس» والقدسية المقصودة ها هنا إحاطة الفاعل المؤثِر بصفتي العصمة والكمال؛ لأن المثالية جاذب أولي للوعي الشعبي مثلها مثل البطولة والنجومية، ولذلك على الناقل الظاهري لخطاب القصدية أن يتحلى بتلك الصفات الثلاث «المثالية والبطولة والنجومية».
إن الطبيعة الإنسانية تميل إلى الانجذاب إلى من يفوقها، مما يسهل على مصدر ذلك الانجذاب تشكيل وعي تلك الطبيعة أو تغييرها أو التلاعب بها أو تحريفها.
ولذلك يجب أن يتحول ناقل خطاب القصدية إلى «مصدر انجذاب».
ليس صحيحاً أو على الأقل كما يعتقد الوعي العام أن «ناقل الكفر ليس بكافر «؛ لأن النقل هو تمثيل في ذاته لاتجاه الناقل، قد يعتبر البعض أن فكرة اعتماد المطابقة بين القول وناقله أو تشخيص حقيقة الناقل من خلال منقولاته بها الكثير من التزمت.
عندما تحلل الوعي العام بذهنيته الشعبية المتداولة ففكرة اعتماد المطابقة هي الأقرب إلى واقع ذلك الوعي من التزمت سواء أكان ذلك الواقع هو واقع مدبر أو واقع اقتضائي أو واقع علليّ.
وذلك الواقع الداعم لربط صفة الناقل بصفة منقوله يستفيد منه خطاب القصدية على مستويين؛
أولهما «تصفية معارضيه» وبذلك يُصبح المنقول دليل إدانة طبعاً في ضوء الانحراف الدلالي الذي يمارسه ذلك الخطاب وتفشي سوء الظن.
والمستوى الثاني هو «المقابل المستفيد» من هذا الواقع، فإذا كان الوعي العام يقرّ بأن «ناقل الكفر هو كافر» فهو مقابل ذلك يقرّ بأن «ناقل الإيمان والخير والمثالية والتقوى» هو وفق صفة منقوله «مؤمن وخيّر ومثالي وتقيّ» مما يدعم مصداقية الناقل ومثاليته ونجوميته، وهنا يتحقق تطابق الهوية بين مضمون خطاب القصدية وناقله، ويتكثف هذا التطابق حتى يُصبح الناقل هو الخطاب ويتحول إلى وثن أو قديس مبارك.
وذلك أيضاً جزء من طبيعة الوعي الإنساني.
إن الوعي حتى يُنتج موقفاً أو صدقية نحو منقول أو مقروء أو خطاب لا بد أن يترجمه إلى مجموعة من التمثيلات وفق خبرته التي تتطابق مع شرائح واقعية يألفها أو ينفر منها يحبها أو يكرها يمجّدها أو ينبذها.
وإذا لم يستطع ذلك الوعي من إيجاد شريحة واقعية تتطابق مع تلك التمثيلات وفق خبرته، قام هو من خلال خياله بتحويل تلك التمثيلات إلى «شرائح واقعية»، ولذلك يعدّ الخيال مصدراً من مصادر المعرفة؛ لأنه يحتوي على قدرة فكرية.
إذن هذا التحويل هو بمثابة تحقيق التوافق النفسي والواقعي بين الوعي والمقصد المُصدّر إليه كمعنويات متتالية.
لكن ما يحدث بعد هذا التحويل أي إنتاج «النموذج الإجرائي» هو الجزء الأهم لأنه هو الذي تُبنى من خلاله صورة القديس النجم والمُخلِص أو الدكتاتوري أو الإرهابي أو المتطرف؛ أي أنه مساهِم فعّال في تشكيل الذاكرة الاستدعائية بشقيها المعياري والانفعالي للوعي الإنساني.
وبذلك تُصبح العلاقة مباشرة بين الوعي الجمعي والنموذج الإجرائي المبني على الاستدعاء المعياري والانفعالي.
إن الجمع بين نموذجي البطل والقديس الذي يدعمه الخطاب الأسود، حوّل ناقل الخطاب وصانعه أيضاً إلى بطل شعبي بجوار قدسيته وهو ما يتنافى مع تاريخية «صناعة القديسين» لكن ثنائية القديس والبطل متطلب ضروري لطبيعة مؤثرات تشكيل الوعي الجمعي الذي ركّن مفهوم الدين في ثوابت محددة، وذلك التركين هو الذي دفع الخطاب المتطرف إلى تجديد إستراتيجية «صورة القديس» بحيث يخرج من الإطار المُركّن إلى مدى يتناسب مع طبيعة الوعي الجمعي الجديدة التي تأثرت بعناصر ثورة الصورة وثورة الاتصالات وثورة النجومية والمؤسِسة على مبدأ «الجاذبية والنجومية والبطولة» وكان أسامة بن لادن هو فاتحة هذه الإستراتيجية الجدية في صناعة «القديس المبارك» مروراً بالظواهري وصولاً إلى أبي بكر البغدادي.