«لا أظنُّك تدَّخِرُ الآنَ حُزنَكَ للأشقياءِ ..
جديرٌ بحُزنِكَ ألاّ يكونَ لغيرِكَ
فاكتُب على الماءِ
ما سوف توحي به النارُ
أنت الخلودُ الأكيدُ الذي يتقّيه الزوالُ..
فهل قلتُ فيك الذي..
لا يقالْ؟»
تفرح كثيراً عندما يقدّم لك شاعرٌ روحَه ومعرفتَه وتجاربَه ورسائلَه السامية في عملٍ واحد، قصيدةٍ واحدة، تشربها وتتذوقها كفنجانِ قهوةٍ صباحيّ، وكوبِ ماءٍ عزيزٍ زلال.
وأنت إنْ لم تتأملْ في مشرق يومك، فلن تتذوق ولن تفهم القهوة وأسرار هجرات البنّ والنكهة واليد الماهرة، ولن تدرك قيمة الماء الفرات والبساطة والوضوح والعمق وقصص السحاب والأرض والسماء، وعبقرية الأنهار، وقصص الحضارة، ولن تنال هبات الحرف والشعر عندما تصطفيه أو يصطفيك.
رحلاتُ معرفةٍ وتأملٍ عميق إذا هي الحياة في كل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، كذلك هو الشعر الجميل الذي يشدنا ويدهشنا ويثرينا معرفياً وإنسانياً حين يخاطب أرواحنا وعقولنا، ويحرك مداركنا ومشاعرنا، ويغيرنا نحو الأفضل والأجمل، كهذه القصائد التي بين يديّ للشاعر المبدع عبد الله موسى بيلا.
القصائد لا تستسلم لغنائيتها، فخلف الغناء بعدٌ فلسفيٌّ، وعودةٌ للأسئلة الأولى، الموت والخلود، والأرض والسماء، والجسد الفاني والروح والفكر الخالد، والنور والظلام:
« والنورُ سردابُ بيتِ الظلام..
فلا تخشَ إلا النقيض
فبين النقيضين قد ينجلي الشكُّ
عن فيضان الوضوحْ..
وتنبتُ بين الهوامشِ بعضُ الشروحْ.»
فالروح أساس، وحرية، ومضمون، وفعل، ولوحة، وخلود. هذا ما تقوله أو تشي به قصيدة تراتيل جسد:
« أيهذا السّدى..
أيهذا الجسدْ..
لا تكنْ كالإطارِ على لوحةٍ
وكنْ لوحةً للإطار!
خذ العفوَ من جسدِ الأرضِ
وأمرْ بعرفِ البداءات
يا جسداً.. فتّشتْهُ يدُ الدهرِ باحثةً عن جسدْ.»
جميلٌ هذا التأمل، وجميلةٌ هي الفكرة، جميلةٌ هي العبارة، فالقيمة في اللوحة أي المعنى، والمعنى في الروح لا في الإطار الذي هو الجسد، الذي هو هالكٌ وابن هالك، لكن الأجمل أن نجد شاعراً شاباً اليوم يتوجه نحو الأشُدّ بمثل هذا الزاد، أي أنه بلغ حكمته قبل سنّ الحكمة والعقل، فهو في نظري من ندرةٍ من أقرانه وسابقيه من شعراء المملكة في هذا، أي الذين لا يركضون خلف الجسد، ولا يستسلمون لانهمار الإيقاع وحده، بل يتناغم فكرهم مع إيقاعهم، ويرسمُ لديهم المعنى المبنى. فشاعرنا يبحث ويسأل، وهو حين يفعلُ يعودُ للينابيع الأولى، للإنسان وللطفولة وللطبيعة مفكراً متأملاً منحازاً للحق والخير والجمال والروح والمعنى لا الشكل والجسد، وإن كان يعطي للشكل قِطَّهُ كاملاً فلا يبخسهُ حقه في الانثيال، أو في خفق الأجنحة المتجانس والطيران والتغريد.
ويتبدى لنا ذلك جليّا في قصائد: « ألف شكراً لكم» عن القضية المركزية فلسطين، والعدوان البربريّ الأخير على غزة، « رحلة في عيون الصغار» والخوف من المستقبل والقادم، وواحدة من المفضلات عندي: «أعمى.. ينتهكُ النور» بإهدائها البديع الذي قد يختصر لنا رؤية الشاعر: « إلى ذلك الذي أبى إلّا أنْ يرى.. بالرغمِ من فضيلةِ العمى..!!»
فماذا تكشف لنا القصائدُ أيضا غير ولعه بالروح؟!
ربما شغفه بالنور والوضوح، وخوفه من الظلم والظلام والغموض: غموض الواقع، وغموض المستقبل، لا الغموض العالي في ثنايا القصيدة الناتج عن وضوح الرؤية، وعمق المعنى، وجمال الخيال.
فمعظم قصائده كتبت فجراً، أو صبحاً، أو في الظهيرة، وأنا سعيدٌ بأن أجد من هو مثلي في العلاقة بالكتابة، وفي تفضيل نهلها من اكتناز الصباح، وتجلي الأفكار الأول، حيث البراعم والبدايات الحرةُ والتأمل البكر، وقلّ أنْ نجدَ لهُ قصيدةً دون ذكر الصباح.
والفجر شجرةُ الإيمان والأفكار والمعانى التي قد نجد ثمارها في استعاراته، ولغتة القرآنية المتقنة، وإحالاته الدينية، والنور الذي يشع منه وعلى قصائده باحثاً عن الحقيقة، أو مجسداً لها:
« الندى قد يخاصمُ ذاتَ صباحٍ وريقاتهِ..
تُضربُ الريحُ عن كلِّ أدوارها.. يتفانى المدى في المدى.. تتنازلُ شمسٌ عن النورِ..
قدْ تتزيّا الحقيقةُ بالعرْيِ..
والرّوحُ كم نسيتْ في العماءِ هياكلها
وكم أبهمتها التفاسيرُ
كم صوّرتها الفهومُ الطليقةُ في بوحِها لغةً ممكنةْ؟!»
- كلّ المقاطع المقوسة للشاعر عبد الله موسى بيلا