«صراعُ الإنسانِ ضد السلطة هو بالدرجة الأولى صراعُ الذاكرةِ ضدّ النسيان»
ميلان كونديرا
الجميل في كتب السيرةِ الذاتيةِ، عدا عن أنها تطلعك على تجاربِ الآخرين بما يشبه التلصص المشروع، أنها تجعلك ترى حياتَك من خلالها، سواءٌ أتلك التي عشتَها أم تحلم أن تعيشها، لتكونَ في حالةِ مقارنةٍ دائمةٍ، الأمر الذي يجعلك تتعرّف ذاتك أكثر، ويدهشك مدى اختلاف التجربتين بالإضافةِ إلى تشابههما، ما يعني اكتشافك أنك حالةٌ فردية فريدةٌ من نوعها بالإضافةِ إلى تكرارك في وجوهٍ أخرى!
في كتابها «ماضي مفرد مذكر» –صدر عن دار الانتشار العربي عام 2011- تعرض أميمة الخميس جزءًا من سيرتها الذاتية في المؤسسات التعليمية الكهنوتية الصارمةِ طالبةً ومدرّسةً ومسؤولةً، وتصفُ انسحاب اللونِ من حياة النساءِ في مرحلة الصحوةِ في ثمانينيات القرن الماضي. اختارت الكاتبة لسيرتها عنوان «ماضي مفرد مذكر»، جاعلةً من الطريقة التي يتم بها معرفة وزن الكلمة وأصلها في الميزان الصرفي في اللغة العربية مقابلًا لفلسفة المجتمع في النظر إلى كل ما هو متعلقٌ بالنساء على أنه طارئٌ ومزيدٌ وقابلٌ للحذف أو التهميش! وخلال الفصول التي بلغت خمسةً وأربعين فصلًا، تسرد الكاتبة وقائعَ شخصية ولا شخصية في آنٍ معًا لكونها حدثت لها وتعبّر عنها من منظورها، ولكنها في الوقت نفسه تتكرر مع أخريات بالتفاصيل نفسها تقريبًا، وبالرغمِ من محاولاتها لمقاومةِ ذلك كله إلا أنها كانت تستسلم في النهاية وتعترف بأنها كانت تمارس عملها بشكلٍ رتيبٍ وآليٍ، ما دام ما حولها قاتلٌ للإبداع ومرفوضٌ لأنها امرأة! وعبّرتْ عن استسلامها أخيرًا بتقديم استقالتها من السلكِ التعليمي بأكمله مكتفيةً بالكتابةِ الحرة وسيلةً للمقاومة.
في سيرةٍ أخرى لا تختلف كثيرًا عن الأولى تكتب آذر نفيسي تجربتها في أجواء مماثلةٍ، وتجعل من مذكراتها محاولةً لقراءة واقع إيران بعد الثورة وسيطرة الملالي على الحكم، وتغيّر شكل الدولة منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، وقد كان عنوان السيرة «أن تقرأ لوليتا في طهران» كفيلًا بخلق صدمةٍ أولى لدى القارئ، «فلوليتا» روايةُ فلاديمير نابوكوف مُنعت لجرأتها في أمريكا أول الأمر ولم تنشر فيها إلا بعد ثلاث سنوات من نشرها في باريس أي في عام 1958، ودراسةُ روايةٍ من هذا النوع في إيران بعد الثورة الإسلامية كان يعد تابو في حد ذاته! تقسم نفيسي مذكراتها إلى أربعة أبوابٍ كبيرةٍ عنونتها بأسماء أعمالٍ أو كتّابٍ أمريكيين (لوليتا- غاتسبي- جيمس- أوستن) كانوا مواضيع محاضراتها في جامعةِ طهران، وقد رأت – بعكس أميمة الخميس- في التدريس فعلَ مقاومةٍ للتعتيم والإحباطِ واللونِ الواحدِ الذي كان نظام الدولةِ قد بدأ بنشره وتلوين كافةِ وجوه الحياة به دون غيره. وعلى الرغم من سنوات مقاومتها الطويلةِ إلا أنها قدمت استقالتها من الجامعة لتنشئَ صفها الخاص في بيتها مع مجموعةٍ منتخبةٍ من طالباتها لعامين، ثم قررت ترك البلاد إلى الولايات المتحدة عام 1997حين أيقنت بعدم وجود ضوءٍ في آخرِ ذاك النفق!
وجدتُ نفسي بعد قراءةِ السيرتين أقف في المنتصف، وإن كانتِ الكاتبتان تلتقيان في كثيرٍ من الأمور لعل أولها الصبغة الدينية للبلدين، إلا أنهما لم يختلفا كثيرًا عني أنا التي نشأت في بلدٍ ليس له هذه الصبغة، وعلى العكس من ذلك فقد كان في فترةٍ من فتراته – في الثمانينيات أي الفترة نفسها التي تتحدث عنها الكاتبتان- يحارب كل ما يمكن أن يكون له شكلٌ إسلاميٌ بدءًا بنزع حجابِ النساء في الشارع أو في إجبارنا على خلع الحجاب عند وقوفنا أمام العلمِ لتحيته كل صباح، أو حتى في الهتاف الذي نبدأ به يومنا الدراسي ونتعهد فيه بالقضاء على عصابة «الإخوان المسلمين المجرمةِ «وانتهاءً بذلك كله! وعوضًا عن الأنشطةِ
اللاصفيةِ التي تفتقدها أميمة الخميس كان لدينا مادة التربية العسكرية التي نتعلم فيها تفكيك السلاح وتركيبه (نظريًا غالبًا) دون تفرقةٍ بين الإناثِ والذكور في ذلك باعتبار أننا جميعًا «جند ذلك الوطن»، وغيرها من الشعارات التي يكون غالبًا للمدارس أو المؤسسات التعليمية النصيب الأكبر منها، فلا بدّ أن يرسم عليها جداريةٌ لحافظ الأسد سابقاً، وابنه لاحقاً، أو حتى لكل أبنائه، وبالإضافة إلى أقوالٍ للرئيسين حفظنا بعضها لكثرة ما نراها وصرنا نرددها بمناسبة ودون مناسبة، كنوعٍ من التهكّم أحياناً في بعض حواراتنا العائلية، وحدث أن وقعنا على كشفٍ عظيم في مرحلةٍ متقدمةٍ، إذ كنا في كل موضوعٍ عن الشهداء أو في كل مناسبةٍ عنهم نرددُ قول (الأسد الأب): «الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر»، لكننا عرفنا لاحقاً أنه قولٌ لطاغور ونسب لحافظ الأسد زوراً وبهتانًا ! ولا أجد في هذا الاستخدام المفرط لجدران المدارس البائسة إلا الرغبة في تحويلها إلى مداجن بامتياز، نتخرّج فيها جميعاً بمرتبة دجاج «شباباً وشاباتٍ» ! صور الأسدين كانت تلاحقُنا في كلِ مكانٍ، في غرفة مدير المدرسة أو غرفةِ المدرساتِ، في مداخل المدنِ ومخارجها، قرب كل فرعٍ للأمنِ أو للنقابةِ أو للحزب، ما يشعرك أنك مراقبٌ دائمًا مثل وينستون سميث بطل رواية 1984 لجورج أورويل، وأن الأخ الأكبر يعرف ماذا تفعل! ولعلّ هذا هو شعور آذر نفيسي التي تضايقها الأقوال المكتوبة لآية الله الخميني في كل مكانٍ في الجامعة ناهيك عن صوره، لو أنها زارت سوريا لربما راودها الإحساس أنها في ما تزال في» بلدها»!
و إن قرأتَ وصفها لمظاهرات طلاب الجامعةِ وغيرهم من شرائح الشعب وتعاملِ أولئك الذين امتلكوا السلطةَ حديثًا معهم، ستجد أن وصفها ينطبق على كل ثورةٍ قامت في بلدانِ الربيع العربي – وبخاصةٍ سوريا باعتبار أن النزاع بين الثوار والنظام لم ينتهِ بعد- وتعاطي الأنظمة الديكتاتورية معها، وظهور الميليشيات غير الرسمية التي تقوم بكل الأعمال القذرة التي من شأنها «تنظيف» الساحة من «الخونة المتآمرين على الوطن»!
إذًا الأمر لا يتعلّق بنظامٍ دينيٍ بل بكل نظامٍ يتخّذ شكلًا ديكتاتوريًا بصورة مباشرة أو غير مباشرة- أو كما يقول البعض بكل نظامٍ له إيديولوجيا، وأظن ذلك خطأً إذ كيف يعقل أن يكون هناك نظامٌ دون إيديولوجيا؟! – كما يتعلق بوصفة المقاومة التي يبتكرها كل شخص يعيش في ظل نظامٍ كهذا!
ما زلت أقف في المنتصف، بانتظارِ ما قد تتحول إليه نصف سيرتي هذه....ربما!