(1)
أيّتها الأرضُ في شرق المتوسّط إنسانُكِ في شكٍّ منكِ، ملامحكِ، وحنينه أنّك سطحٌ وحوافٌ وأطرافٌ؛ لستِ كُرةً، وليس محيطك دائرة خالية الأطراف، فالدائرةُ والكرةُ لا تُرضيان هذه الجيناتُ الطينيّةُ المغرومة بالطرف، نعيمه وملاذه على شفا حدٍّ ومقصلةٍ؛ كم أنتَ مأخوذاً بخوفكَ أيها العربي أيّها اللائذُ في الزوايا، وجيرانك على شاكتك: إيراني، تركي، وعدو إسرائيلي!
أيّتها الأرضُ، لستِ بيضاويّة في هذا الشرقِ الذي يتوسّدُ السكاكين، ويسكن في جحيم الزاويا، أيّتها الموبوءة بالتطرّف، أما من مَصلٍ لهذا الوباء العُضال؟
(2)
ليس من صدفةٍ أنَّ بيئة التطرّفِ إنسانُها على طرفٍ لا يرى غيره، وإن رأى فإنّه يسعى إلى إزاحته واستئصاله؛ ومن منظور الطرف - على الجانبين، فإنّ الوسطَ طرفٌ بحدّ ذاته (على غُربة عنوانه، وإشكالية معناه)، وهو على حالات: أنْ يولد بالتماهي مع دور الوساطة بينهما، أو دور العدو لهما معاً؛ والوَسَطُ موقفٌ وطرفٌ بطبيعته في أيّ حال كان، يجري عليه ما يجري على الطرفين، ولا يكفي ما يظنّه بنفسه من الاعتدال والحياد حتّى يرفع عنه حالة الطرفيّة الحديّة، بينما يقتضي وجوده نفياً لوجود الطرفين بمجرد استقلاله عنهما؛ هكذا لا يكون الوسطُ جُبّةَ اعتدالٍ ورُمّانة عدلٍ بقدر ما هو نقطةُ تطرّفٍ جديدةٍ تحوّلُ الصراع من طرفين إلى ثلاثة أطراف.
(3)
أن تكونَ معَ طرفٍ فأنتَ لستَ مع الآخر؛ ولعلَّكَ تقول: (هذه بديهةٌ)، لكنّك إذ تستسلمُ إلى هذه الحالة وتلبسها ثوب القانون، وتبقى في رخاءٍ من قناعةٍ أنّها ليست بحاجة لمراجعةٍ ونقدٍ ونقضٍ، أو أنّها ليست حالة مشبوهة تستدعي الخروج منها، فإنّك ماضٍ باتّجاه التطرّف الذي تخشاه، التطرّف الذي تحذّر منه وتمقتُهُ على حدّ تصريحاتك وتعابيرك، فليس التطرّف شيئاً قادماً من جهة أخرى غير هذا التصدير الذي بدأنا فيه: (أنْ تكونَ مع طَرفٍ)، والعلّةُ ظنُّكَ أنّها حالة بديهة - طبيعيّة وأنّك مضطرٌّ للتعامل معها بوصفها حالة مؤبّدة.
حسناً، كيف يمكن لك أنْ تُسقط هذا المنطق الإقصائي على المواطنة - المواطنين؛ فأنتَ في الواقع خاضعٌ - لا محالة - لتركيبات اجتماعيّة تفرز طبقيّة (دون الدخول الآن في تفاصيلها: متكيّفة أو متعايشة أو احتكاريّة - إقطاعيّة أم عنصريّة..إلخ) وتفرز أكثريّات وأقليّات، فللمجال الاجتماعي من السعةِ ما يجعل الفوضى مفرزةَ تقسيمٍ تتأثّرُ بالعرق، المنطقة، الدخل، اللون، التعليم،.. وغيرها من مسبّبات الفرز التي يخلقها المجال الاجتماعي بعشوائيّة تجرح معنى المواطنة العامّة، على الرغم من إلباسها صياغات إحصائيّة وتصنيفيّة تبدو صحيحة لكنّها مدمّرة، ما لم يتدخّل النظام السياسي ويلجم الفوضى الاجتماعية القادرة على تفتيت أيّ تجمّعٍ سُكّانيّ وتحويله إلى جحيم من التطرّف والعنف والإقصاء والطبقيّة ذات النزعة التصفويّة.
هنا تحديداً، في الفوضى الاجتماعيّة وجحيمها، لا تكون (بديهتك الطرفيّة: كونك مع وضدّ في آن معاً) سوى تشريع - عُرفي لهذه الفوضى التي تضرب أيّ أملٍ في التعايش، على أدنى شروطهِ فيما يحول دون انفجار السلم الأهلي؛ وهو احتلال وردّة نظاميّة حين يُترك شأن الدولة أو الكيان أو التجمّع إلى المجال الاجتماعي الأعمى، حينذاك يسقط الوعي السياسي في ظلامٍ وينقادُ إلى وحش الأطراف بدلاً من قيادتها وترويضها، وهذا ما تراه شاخصاً وشاهداً في دولٍ مثل: لبنان، العراق، اليمن، ليبيا، السودان... وبديهتُكَ الطرفيّةُ بديهةُ إنسانٍ قديمٍ خوّافٍ تسعى لنقصان الإنسان وتآكله، وكيف لا أشكّ في وعيكَ حينما تدّعى الإنسان الجديد ولا ترى حُرّيّتَهُ في الانتماءِ: (أنّ لكَ أن تكونَ مع طرفٍ، وليسَ لكَ أنْ تكون ضدّ أطرافٍ أخرى)، فوجودُكَ حيٌّ بِهِم وليسَ حيّاً بموتِهِم.
(4)
الوعيُ السياسيُّ وإن كانَ في حدوده الدنيا أصلٌ في النظام، وهو أرحم من الفوضى الاجتماعيّة المتطرّفة، وهو المسؤول عن حماية الدولة من فوضى مكوّناتها الاجتماعية، فالمجال الاجتماعي أصلٌ في الفوضى، وهذا التعاقب في الدول إنّما مردّه دورات بين احتوائيّة النظام وتطرّف الفوضى (والمقصد في الاحتواء الامتلائيّ أنّه فوق التطرّف والطرف، أنّه لا - طرفي).. والدولة مفهومٌ في الواقعِ يحتكم في بقائه وسريانه على قوّة النظام الاحتوائي الامتلائي المتمثّلة بوعي سياسي - براجماتي متكيّف مع محيطه ومكوّناته، أمّا جنوح المفهوم في الواقع باتّجاه الجهل الاجتماعيّ فإنّ الكيان يسقط في التفتّت، ولا يمكن إعادته إلى الحياة، طالما بقي الجهل الاجتماعي مسيطراً وسيّداً على الطبقة السياسية.. وكلّما ازداد خطاب الطرفيّة - أيّا كان تزيّت برداءٍ: (طائفيّة مذهبيّة، عرقيّة - إثنيّة، طبقيّة) وطغى سلطان الأكثريّة، لعرفتَ أن هذا الكيان ساقطٌ في الفوضى الاجتماعيّة.
(5)
الولاية السياسية لدى المنظومة الديمقراطية للأكثرية السياسية، وهذه مسألة تداوليّة داخل النظام وليست مسألة إقصائيّة داخل الفوضى، وشتّان بين مفهوم الأكثريّة السياسيّة في الحيازة التصويتيّة وبين مفهوم الأكثريّة الاجتماعيّة، فهذا أصلٌ في التداول وذلك أصلٌ في الإقصاء، هذا مفهوم في الواقع يُراد له أن يوسّع دائرة المشاركة السياسيّة ويجعلها ويحوّلها من طرف أو من الطرفيّة الحديّة إلى المفهوم الاحتوائي الدائري اللا - حدي اللا طرفي، وذاك مفهوم يريد أن يقتصر الدولة في مكوّنه الأحاديّ ويقصي جميع الأطراف، وهو المفهوم الذي أراد الإخوان إنزاله في مصر وأدّى إلى عواقب أوشكت أن تكسر ظهر مصر وتأخذها إلى دائرة العنف الليبي أو العراقي.
(6)
الدعوة إلى نصرةٍ طرفٍ على آخر في المجال الاجتماعي، هي دعوة إلى تفتيت الوطن واختزاله في طرفٍ، وترسيم حدوده الاجتماعيّة في حدود الطرف، والتفريط في بقيّة الحدود؟.. ألم يكن هذا مآل (الدولة السودانيّة) حينما سيطرت الفوضى الاجتماعيّة على النظام السياسي وأحالت الدولة إلى أطراف، وانتصرت لفكرة اختزال الدولة في حدود الطرف وليس في حدود الأطراف جميعةً!.. أليس هذا حال العراق حينما شرّع المحتل سيادة الفوضى الاجتماعيّة المتطرّفة على النظام السياسي فلم يعد بالإمكان أن تقول العراق: (إلا مجازاً)، حتى المجاز في هذا القول أصبح مستفزّاً، فعن أيّ عراقٍ نتحدّث حينما نتحدّث عن الكيانات العراقية بينما لا نرى فيها العراق.
(7)
عُدْ إلى مخزونِكَ المعرفي: على ماذا يستند في فرزه وأرشيفه؟ على ماذا تستند تصوّراته؟.. لعلّه أفزعك ما رأيتَ! هل بالإمكان تبرئة مخزونكَ الأوّلي من مبرّرات التطرّف، وما تحمله في طينةِ وعيكَ من بذورٍ لهذا الجنون الذي يستخدم العقل في تدمير كلّ شيءٍ حيّ وجميل؟
ها أنت متعلّق بالتطرّف منذ ولادتك، إن كنتَ ذكراً فها أنتَ على طرفٍ، وإن كنتِ أنثى فها أنتِ على طرفٍ، فأيّ بدايةٍ لهذه الخميرة الجِينيّة ابتداءً: وكلاكما إذّاك على مفهوم في التطرّفِ يشوّه قدرته على مفهوم الاحتواء والتكامل.
وأنتَ منذ وعيتَ قليلاً بعد الولادة، بدا أنّك تنتمي إلى منطقٍ في التربية الدينيّة والأخلاقيّة ترى العالم مختزلاً فيها، وترى الأخلاق على مسطرتها، وترى الصواب لا يفلت منها، والحكاية: أنّ تضخيم التطرّف لا يقف عند حدّ المبالغة في البيئة المغلقة الأولى - الطرف الأوّل، بل يستند إلى الإساءة إلى الأطراف الأخرى.
عُدْ إلى مخزونك الآن: أين يقف أصحاب الأعراق الأخرى مقارنة بعرقك؟ أين يقف أصحاب المذاهب الأخرى مقارنة بمذهبك؟ على ماذا يتمّ الفرز في ذهنك؟ هل تقدر على الفرز دون مرجعيّتك الأخلاقيّة الخاصة ببيئتك الضيّقة بمنظور العائلة والأعراف المذهبية؟
) هل أفزعك ما رأيتَ؟ فأنتَ إذا ما تحرّرت أوّلاً من نفسك المتطرّفة، لعلّك إذّاك تمضي باتّجاه الاحتواء والامتلاء، فتحييد موازينك الفوضويّة المتطرّفة في قياس الأمور والتصوّرات.
(8)
الوطنُ أو حالةُ الانتماءِ إليهِ لا يتحمّل أنّه ملك أكثرية اجتماعيّة ما: عرقية، مذهبية؛
الوطنُ أو حالةُ الانتماءِ إليهِ لا يتحمّل أن يُوزنَ مواطنيه على نتائج المنتصر والمهزوم؛
الوطنُ أو حالةُ الانتماء إليهِ لا يقوى أنّه ينتمي لبعضهِ ولا ينتمي لبعض آخر؛ وأيّاً من هذه الحمولات إن أُجبرَ عليها لوجدته مكسوراً لا يقبض على عروته الوثقى.
(9)
يقولون: (خطر الأقليات)، ولستُ في وارد التعجّل والتورّط بنقد العبارة عبر إبراز وتسليط الضوء على: (خطر الأكثريات)، إنّما الخطرُ - ها هنا تحديداً - في ربط حالة الانتماء الوطني (بالطرف) بالطرف الأيمن أو الأيسر أو الوسط، أيّ طرفٍ كان، فإنّه يبقى طرفاً لا يلمّ الأطراف جميعة، ولا يمكن لوطنٍ أن يقومَ إلاّ بأطرافه جميعاً فيما يكوّن احتواء وامتلاء ولا يكون إقصاء؛ الخطرُ فقدان الدائرة الوطنيّة وانتصار زاوية (إمّا أنا وإمَا أنت) - هُناكَ تحديداً - يكون الجحيم.