مهما طال الصمت لن تصمت!
كثير من الأدباء الراحلين تركوا وراءهم وصية بعدم نشر مخطوطاتهم غير المنجزة. إلا أن القانون بعد مرور ربع قرن من الزمن لا يطال الناشر في حال مخالفته وصية الكاتب.
وصية الكاتب بعدم النشر هي حافز كافٍ للنقاد والبحاثة والناشرين للبحث عن النصوص ونشرها. نشر نص او رسائل شخصية لأديب بعد موته وخلافا لإرادة الأديب الراحل، قد يعطي القارئ أو الناشر سلطة على النص، لكن في الوقت نفسه يغدو الكاتب (الغائب) خارج أي نقد. رغبة النشر هنا تشبه رغبة التلصص لكنها مغلّفة بتبريرات رنّانة من نوع «حياة الكاتب ليست ملكا له». لكن في النهاية َمنْ مِنَ القرّاء لا يرغب في التلصص على عمل الكاتب غير المنجز أو على رسائله الخاصة، ذلك الكاتب الذي جعل منه الموت غافلا عن تلصصنا.
ارنست همنغواي أوصى بعدم نشر مخطوطاته غير المنجزة. لذا كان على أحد الناشرين انتظار ربع قرن من الزمن كي يتمكن من نشر روايته «حديقة عدن» عام 1986 والتي لم تكن الرواية الأولى التي نشرت بعد موته بل سبقتها عام 1970 رواية منجزة هي «جزر في التيه». وإذا كان همنغواي قد ترك وصية (ولم تُحترم بعد ربع قرن)، فإن الكاتب البريطاني سومرست موم الذي ولد في فرنسا وعاش حياة مدوية فارقة وتوفي بعد همنغواي بسنوات قليلة، قام في المرحلة الأخيرة من حياته برمي كل رسائله الشخصية والخاصة في المدفأة ووقف يتفرج عليها وهي تحترق لتتحول الى رماد. لكن سبق عمله هذا نشر كتاب وهو في الثامنة والثمانين من عمره، وضع فيه كل ما اراد قوله للناس عن حياته. أظهر ما أراد إظهاره وأخفى ما أراد إخفاءه. كذلك طلب ممن كان له علاقة شخصية معهم بحرق رسائله أيضا. إلا أّنّ بعضاً منهم لم يصغ الى طلب موم وخبأ الرسائل لسنوات طويلة بدل حرقها. وإذ بكتاب يصدر عام 2010 بتوقيع سيلينا هاستينغس بعنوان «الحيوات السرية لسومرست موم»* يحوي الكثير من الرسائل والاسرار المتعلقة بالكاتب والتي اعتقد الجميع انها انطفأت بحرق الكاتب لوثائقه ورسائله.
في روايتها «الموثّق»* عالجت الكاتبة الأميركية مارتا كولي مسألة أثر الأدباء الراحلين وخاصة الرسائل الشخصية، عبر قصة رجل ستيني يعمل موثّقا في مكتبة عامة ومن مسؤولياته الحفاظ على رسائل خاصة للشاعر الأميركي البريطاني الجنسية ت. أس إليوت تبادلها مع امرأة تدعى إيميلي هالي. شابة تقوم بإعداد دراسة عن الشاعر تحاول بكل جهدها الحصول على تلك الرسائل. لم يكن يهم الكاتبة تقديم حياة وأشعار إليوت بقدر ما كان يهمها طرح موضوع المسؤولية الأخلاقية والمهنية إزاء قضية مشابهة خاصة أن الشاعر أوصى بحماية رسائله من أعين القراء.
في النهاية يقوم الموثّق بحرق الرسائل حفاظا على وصية الشاعر.
لا بدّ لأي كاتب منا أن يتساءل ماذا سيحدث، بعد موته، ليومياته ولرسائله الشخصية التي لا يريد نشرها. نتساءل هنا ان كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قد رغب بنشر رسائله الى الكاتبة السورية غادة السمان. كذلك الأمر بالنسبة للشاعر اللبناني خليل حاوي ورسائله الى الكاتبة العراقية ديزي الأمير. مهما صمتت رسائل الأدباء الراحلين، فلن تصمت طويلاً، علماً أن الرغبة بعدم النشر حق من حقوق الكاتب، لكن الموت يجعل من هذا الحق منتهي الصلاحية.