يؤكد خالد المالك في كتابه: (للتاريخ ولغازي القصيبي) (ص33) ألا علاقةَ شخصيةً مميزة تربط بينه وبين غازي مما حرره من رواية حكاياتٍ شخصية، لا يعلمها سواه، لكنه - في الضفة الأخرى - وثق علاقةً من نمطٍ مهنيٍ متخصصٍ كونته الصحافةُ مذ دعا رئيسُ التحرير الأكاديميَّ إلى تحرير صفحة أسبوعية متخصصةٍ، حملت عنوان (الحقيبة الدبلوماسية)، عُنيت بالتطورات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم (ص 36)، مثلما احتفت الجزيرة بنصوصه الشعرية التي أفردت لها مساحات مميزة (ص 34)، كما خصَّ الجزيرة ببعض مقالاته، وفق ما ذكره المالك.
وحين عُيّن وزيرًا للصناعة والكهرباء (1975م) دعا القصيبي صديقه رئيس التحرير في أيام عمله الأولى بالوزارة ضمن من دعا من رؤساء التحرير إلى ما أسماه المالك اجتماعًا عاجلًا ومهمًا بحضور المدير العام لشركة الكهرباء (ص38) لعلاج الوضع المتردي للخدمات الكهربية، ومناقشة الحلول الجذرية التي قدمها الوزير، فساندته الجزيرة كسواها من الصحف، وكَلف المالك الأستاذ حمد القاضي بمهمة متابعة نشاط هذا الوزير الحيويِّ (ص 44). وحين تولى الوزير حقيبة وزارة الصحة (1982) التي كانت قريبة الشبه من وضع الكهرباء المتدني فقد استعان الوزير بالإعلام لتمرير برنامجه الإصلاحي (ص 49) غير أن مكثه في الصحة لم يطل. وهنا يقفز المالك على السبب ويقول: «.. صدر أمر ملكي بإعفائه من الوزارة بعد أن سبق الإعفاءَ بشهرين حديث متواتر بين المواطنين عن أن إعفاءه من عمله وزيرًا للصحة أصبح تحصيل حاصل ومسألة وقت ليس إلا..» (ص50).
ما لم يقله المالك هنا هو أن الجزيرة نشرت نصه الأشهر (رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة)، وقدمَته بهذه الكلمات: «مرات.. ومرات.. يتحفنا شاعرنا الشاب د. غازي القصيبي برائعة من روائعه. ولعل شاعرنا هذه المرة يريد بمخاطبته لسيف الدولة أن يعكس مشاعر تجول في خاطره بشيء مؤلم حزَّ في نفسه، وأرّقه، كما كان يحدث لأبي الطيب في عصر سيف الدولة. ومهما كان تحليلنا لأبعاد هذه القصيدة، إلا أننا مؤمنون بأن الدكتور غازي أراد استرجاع شيء فقده هو أو فقده الناس، وهو الصفاء النفسي، وثبات القاعدة مع من يحبه أو يحبونه بإخلاص، ويعمل من أجل ترسيخ هذا الحب. والذي نرجوه أن تحقق القصيدة للدكتور الوزير ما يريد».
بدا تقديمًا وجلًا، فَهم الصورة العامة، وشاء أن يظهر على أنه لم يفهم التفاصيل. ولم يمرَّ النصُّ بهدوء؛ فقد أثار غبارًا كثيفًا حول الشاعر والناشر، وفُهم منه أنه استقالة مبررة من القصيبي، وتُسوئل عن مبرر نشرها للعلن، ولم يجيبا عن ذلك في حينه، غير أن الأستاذ المالك أوضح الحقائق المُتجاهَلةَ في حوار متلفز، بُثَّ في رمضان 1435هـ (يوليو 2014م )* حيث ربط إقالته والقصيبي بالقصيدة، كما أفصح عن كاتب التقديم وهو الأستاذ راشد الحمدان - رحمه الله - بل أكد أكثر من ذلك أنه لم يندم على نشرها.
رحل الوزير، ولحقه رئيس التحرير، واختفى القصيبي من صفحات الجزيرة على مدى خمسة عشر عامًا، كما اختفى رئيس التحرير المدةَ نفسَها (1984-1999م)، ثم عاد المالك لرياسة التحرير، ورُفع الحظر عن اسم القصيبي في الجزيرة، ولم يكن قد طاله حظر في صحفٍ أخرى؛ فقد نشرت له «الشرق الأوسط والحياة»، على وجه الخصوص، زوايا وقصائد، كان من أشهرها زاويتُه: (في عين العاصفة)، خلال حرب تحرير الكويت، مثلما تواصل عطاؤه الكتابي في مواجهة رموز الصحوة حينها عبر كتيِّباته: «لئلا تكون فتنة».
استُدعي القصيبي عام 2002م من العمل الدبلوماسيِّ ليشغل حقيبة وزاريةً ثالثةً فرابعة فخامسةً، هي: المياه فالمياه والكهرباء (2003م) ثم العمل (2004م)، وبقي وزيرًا حتى وفاته - رحمه الله -. وأجرى معه صاحب الورقة لقاءً استقصائيًّا مطولًا، نُشر على ثلاثة أعداد في ست صفحات ملونة من خلال صفحته (واجهة ومواجهة)، حظيت بمتابعةٍ لافتةٍ، وبرضا الوزير العتيد الذي وصفها بالعمل الجبار. وقبل صدور المجلة الثقافية أجرى وزميلٌ له حوارًا ثقافيًّا قصيرًا مع القصيبي، نُشر في أول أعداد المجلة (3-3-2003م / 29-12-1423هـ)، فتصدرت صورة القصيبي فاتحة أعداد المجلة.
اتضح أن العلاقات الحميمة بين القصيبي والجزيرة عادت أقوى مما كانت، وتوجها قيام الجزيرة الثقافية، ممثلةً بمجلتها، بإصدار عددٍ خاصٍ عن الأديب والمثقف القصيبي في «أربعين صفحةً ملونةً»، تبعه استكماله في عددٍ تالٍ: (العددان 273-274 -5-12 مارس 2009م)، أبهرت القصيبي الذي قال عما نُشر في العددين إنه أهم لديه من جائزة نوبل، وطلب في رسالة مطولة بعث بها إلى الأستاذ المالك طباعة العدد على شكل كتاب، أو الإذن له بذلك، فقامت مؤسسة الجزيرة بطباعته، وجاء كتاب الاستثناء باكورة إصداراتها الثقافية التي بلغت عشرة إصدارات عن «أعلام الثقافة السعودية»، الذين تجاوز عددهم أربعين رمزاً.
ولعل خطاب القصيبي وثيقة نادرة، كتب فيها بخط يده على امتداد ست صفحات من أوراقه الخاصة، برقم 902-1 في 11-3-1430هـ (08-03-2009م)، إيحاءاتٍ ودلالاتٍ عن نفسه معتزًا بما قرأه في العدد الخاص الذي حوَّله - كما قال - إلى شاعر شعراء وروائي روائيين، وأكد أن شوقيًا لم يكن أسعدَ منه حين بويع بإمارة الشعر، مثلما لم يفرح حائز نوبل كفرحته بالتكريم منقطع النظير، وعدَّ العدد مفاجأةً «.. ولا أبهى ولا أسعد ولا أشهى».. وهذه هي الرسالة بحروفها ونقاطها وفواصلها (الاستثناء 621-624):
***
عندما كنت في الثانية عشرة، أو نحوها، حملت «قصيدتي» الأولى التي لم يكن فيها بيت موزون واحد إلى الصديق العزيز الشاعر عبد الرحمن رفيع، وكان زميلي في الفصل، وانتظرت رأيه بخوف.. وجاء رأيه أكثر من سخيّ..
وعندما كنت في السابعة عشرة، في سنتي الجامعية الأولى، حملت قصتي الأولى إلى زميل عزيز في الدراسة، اسمه عبد المنعم أحمد عبد المنعم، وكان قد سبقني في كتابة القصص، وانتظرت رأيه بخوف.. وجاء رأيه أكثر من سخيّ..
من أعاجيب الزمن أن هذا الزميل العزيز كان - رحمه الله - قصصياً ذا موهبة نادرة، ومع ذلك لم ينشر، قطّ، شيئاً.. ولم يعرفه أحد.. فتأمل!
وعندما كنت في الثالثة والخمسين حملت الفصول الثلاثة الأولى من شقة الحرية (وقتها كان العنوان الذي أفكر فيه «شارع الدريّ»، ولكن تلك قصة أخرى) إلى الصديق الكبير الأستاذ الطيب صالح - رحمه الله - وقلت له: «اقرأها.. وقل (أكملْ).. أو (لا تكمل).. وقرأها وقال (أكمل)»!
تذكرت، وقتها، الدكتور عبد القادر القط عندما حملت إليه مخطوط الديوان الأول (وكان عنوانه وقتها «ليالي الصبا» ثم أصبح أشعار من جزائر اللؤلؤ)، وكنت على أبواب العشرين، أساله «أنشر؟ أم أمزّق الأوراق؟».. انتظرت شهراً، وأنا في قبضة الرعب، قبل أن يجيء ردّه السخيّ: يجب أن تنشر!
لماذا أقول لك كل هذا الآن؟ لأنني أود أن أقول إن كل من عُذِّب وسعد بصحبة الحرف يتأرجح، دوماً وأبداً، بين الثقة المفرطة والقلق القاتل..
لا بُدّ من الثقة لكي يكتب.. ولا بدّ من القلق؛ لأن المبدع الحقيقي في شك دائم من جودة إنتاجه.. أو يجب أن يكون..
ثم جاء العدد الخاص من «الثقافية» مفاجأة.. لا أبهى.. ولا أسعد.. ولا أشهى..
هل هناك ما يسر رجلاً يستقبل السبعين، مع سرقة عامين من التاريخ الهجري لصالح التاريخ الميلادي! أكثر من اعتراف زملاء المهنة.. واحتفائهم بما يكتب؟
يقول التعبير الإنجليزي، الذي لا أعرف له شبيهاً عربياً، في معرض الثناء على مهني ما: هو «طبيب طبيب» أو «محامي محام». والفكرة أن الطبيب عندما يختار طبيباً لن يختار إلا طبيباً يثق بكفاءته تمام الثقة.. أو المهندس.. أو المحامي..
هذا العدد الخاص حولني إلى «شاعر شعراء» و»روائي روائيين»..
يا الله..
كل هذا الحشد الكريم!
كل هذا الجمع الرائع من المحيط إلى الخليج!
كل هؤلاء يعطون من أنفسهم.. ومن وقتهم..
ومن مشاعرهم.. احتفاء بمواطن بسيط من مواطني مملكتهم السحرية!
لا أظن أن شوقي كان أسعد مني حين بويع بإمارة الشعر (وأنت تعرف رأيي في هذه القضية الشائكة).
ولا أظن أن حائزاً جائزة «نوبل» فرح فرحتي بهذا التكريم منقطع النظير.
فليوزعوا نوبل على من شاؤوا.. لقد ظفرت أنا «بنوبلي»!
شكراً لك من الأعماق!
وشكراً لكل أخ أسعدني بحروف..
وكل أخت أسعدتني بكلماتها..
من بين هؤلاء من كنت أقرأ له وأنا مراهق، وأسعدُ لأني عشت في عصره، وامتد بي العمر لأسمع منه فيّ رأياً يقترب من رأيي فيه!
هذه من نعم الله التي أشكرها ولا أحصيها.. وشكراً للزملاء الذين ساعدوا في إخراج هذا العمل - الوثيقة..
لا أستطيع أن أفي الشكر من يستحق الشكر.. ولكني أرى في هذا المجال أن الملوك الأربعة الكبار الذين شرفت بالعمل تحت قيادتهم يستحقون كلمة ثناء صادرة من الأعماق..
فقد صبروا على ما لا يكاد أن يصبر عليه أحد..
وتحملوا ما لا يكاد أن يتحمله أحد..
وشكراً لكل قارئ من المحيط إلى الخليج.. وتلك نعمة من نعم الله ثانية أن يكون لي قراء من المحيط إلى الخليج..
وأخيراً، وليس آخرًا، إلى زوجتي الغالية، أم يارا وسهيل وفارس ونجاد.. كلمة حب ووفاء.. تلك التي صبرت على «ضرّة» الكتابة.. هي، دوماً، قارئتي الأولى.. وناقدتي الأولى.
لم تقل، قط، كلمة قاسية.. ولكن ملامح وجهها كثيراً ما كانت تكفي لأمزق ما كتبت!
بقي أن اتحرّر من أي تواضع مصطنع لأقول لك بصراحة إني أرجو أن يتحول العدد إلى كتاب.. تتكرّم «الجزيرة» بطبعه.. أو تسمح لي بطبعه..
فأنا أريد أن أترك للأولاد والأحفاد «كنزاً» يذكرهم بأنني مررت بهذه الأرض.. ومضيت.. ولكني تركت وردة هناك، ونجمة هناك، وبينهما كثير من الدموع.. والابتسامات!
تركت لهم محبة آلاف القراء..
جُعلت فِداهم!
واسلم
غازي القصيبي
11-03-1430هـ
طبعت الجزيرة عدد «الاستثناء» في مجلد كبير، شغل 632 صفحة، طباعةً فاخرة، زانته لوحات الفنانَيْن العربيَّيْن العالميَّيْن «جبر علوان» في روما و«يوسف عبدلكي» في باريس، وكتب فيه أكثر من سبعين باحثًا وناقدًا وإعلاميًا، وتعمدنا أن تكون الأغلبية من خارج الوطن؛ كي لا يجيءَ العدد مجاملًا، وركزنا على الدراسات أكثر من الشهادات، وتمثلت فيه معظم أقطار الوطن العربي والمغترب الأوروبي والأميركي، إضافةً إلى عدد من المستشرقين والباحثين الغربيين والشرقيين.
لم يكتفِ القصيبي بخطابه المطول لرئيس التحرير؛ فبعث بخطاب شكر لمدير التحرير للشؤون الثقافية المشرف على العدد، ومن ثَمَّ الكتاب، وقال إنه ينوي الاحتفاظ بما كُتب عنه «ذخرًا للأولاد والأحفاد»، وكذا كرمت الجزيرة القصيبي في مبتدأ حياته الإبداعية والمهنية، كما واكبت مسيرته العملية، وانقطعت عنه أو انقطع عنها سنواتٍ، ثم التأما في مشروع حبٍ يندر تكرارُه؛ فشهد احتفاء الأحياء بالأحياء، وسعد وهو يرى كيف تراه النخبة المثقفة محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، ووصف العمل «الجزريَّ» بأنه ذاكرته في هذه الأرض التي مر عليها، ومضى تاركًا وردةً هنا ونجمةً هناك.. وبينهما كثير من الدموع والابتسامات.. ترك لهم محبة آلاف القراء . «- الاستثناء ص 624-»
رحمه الله.
خاتمة:
لم تقف علاقةُ القصيبي بالجزيرة عند شخصَيْ الشاعر والناشر، بل قُرِئت ولا تزال تُقرأ على أنها علاقة التماهي والتضاد بين الرسمي وغير الرسمي، وبين متطلبات الوظيفة ومبدئيات الموقف، وبين مساحة المحرَّم والمباح.. وبالرغم من مرور ثلاثين عامًا على الموقف (1984 - 2014م) فلا يزال بحثه محاطًا بشيءٍ من التوجس، أو لنقل التردد. ولعل طرحه في هذه الندوة يفتح منافذ لنقاش المسافة بين السياسي والإعلامي، ومتى تتبدل العباءاتُ بينهما أو داخلهما؛ فيتحرر السياسيُّ وهو على كرسيه من سطوة الرقيب الرسمي، ويُؤذن للإعلامي في زمن الفضاء المفتوح ألا يكون الأخير في نطاقٍ هو سيدُه الأول الأعرفُ بمداخله ومخارجه، والأجدرُ بنقل رسالته على الوجه الأجمل والأكمل.
** ** **
_ ورقة مقدمة لندوة «غازي القصيبي: الشخصية والإنجازات» - كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية - جامعة اليمامة - صفر 1436هـ/ ديسمبر 2014م.
_ برنامج «في الصميم» عبر قناة روتانا خليجية مع الأستاذ عبدالله المديفر.