تُشكّل اعترافات الشاعر (بدر شاكر السّيّاب)، التي نُشِرَت في بيروت، في كتاب حمل اسم (كنت شيوعياً)، والتي تتناول رؤيته الملتبِسة في كثير من القضايا إبّان حقبة الخمسينيّات مادّةً خصبة للحوار حول موقف المثقّف العربي المعاصر، ودوره من الأحداث الراهنة، والتّغيّرات التي أصبحت تطال وجوده ووجود أمّته التّاريخي على هذه الأرض.
لقد تحدّث السّيّاب في هذه الاعترافات بكثير من البوح عن تجربته السّياسية من خلال انخراطه في صفوف الحزب الشّيوعي العراقي، في الفترة التي تلت النكبة الفلسطينية عام 1948، وكيف أنّه تبنّى بعض المواقف الغريبة مثل إدانته للحرب التي شنّتها الجيوش العربية ضدّ اليهود حين استولوا على الأرض الفلسطينية وأقاموا دولة الاغتصاب، وذلك بناءً على الاعتراف التي حظيت به تلك الدولة من قِبَل المعسكر الاشتراكي. السّيّاب لا يكتفي بنقد تجربته الحزبية التي استمرّت ثماني سنوات، وإنّما ينقد تجربته الشعرية أيضاً، وتلك القصائد (التّافهة) التي كان يكتبها ويُصفَّق لها وهي تُقرأ نيابةً عنه في حفلات التهريج والدّعاية الصّهيونية.
طبعاً كان لا بدّ للسّيّاب فيما بعد - وهو صاحب القامة العالية الذي أخذ على عاتقه مهمّة التّجديد في الشعر العربي الحديث - من أن يراجع تجربته الماضية، وأن يضع حدّاً لكلّ هذه الانزلاقات على صعيد رؤيته المشوّشة. وهذا ما حدث فعلاً، حين قام بالخروج على تعاليم حزبه ومهاجمة قادة ذلك الحزب الذين كانوا في غالبيّتهم من اليهود المتعاطفين مع المشروع الصهيوني.
يمرّ المثقّف العربي هذه الأيّام بمنعطفات خطيرة وملتوية حتى ليمكننا القول إنّه يمشي في أرض مزروعة بالألغام. وما المطبّات التي وقع فيها السّيّاب إلاّ حالة مخفّفة ومبسّطة إذا ما قورنت بالفخاخ والمؤامرات التي تتربّص بالمثقّف العربي المعاصر. فلم يجرِ فقط احتلال فلسطين، ولا تثبيت الكيان الصّهيوني في قلب الجسد العربي، وإنّما ظهرت هناك اتّفاقيّات مع هذا الكيان مهّدت الطريق لبروز ما يسمّى بثقافة السلام والحوار مع الآخر تارةً والتّطبيع تارةً أخرى. لقد تمّ بلبلة المثقفين العرب بهذه المصطلحات الجديدة، إلى الدّرجة التي باتت فيها جماعات من هؤلاء المثقفين مربَكةً وحائرة وغير قادرة على اتّخاذ مواقف حاسمة وجذرية من مسألة الصراع مع العدو الصهيوني.
هناك بعض المثقفين العرب الذين أصيبت مواقفهم بما يشبه الانفصام، فهم في بلدانهم يبدون متماسكين ويباهون بشجاعتهم في مقاومتهم للمشروع الصّهيوني، ولكنّهم حين يحضرون مؤتمراً عالميّاً أو يلتقون صحيفةً أجنبية فإنّ الأمور تنقلب لديهم رأساً على عقب. عندها تتنزّل الرّحمات على قلوبهم إزاء (الآخر) الذي هو المجرم الصهيوني، فيبدأ لديهم فصل جديد في الحديث عن أهمية الحوار معه، وعن إمكانية أن يعيش الطّرفان الفلسطيني والصهيوني في دولتين متجاورتين تتعاونان فيما بينهما وتنبذان حالة العداء!
قسم آخر من المثقّفين العرب يتحسّس من أيّ علاقة يمكن أن تُقام مع مثقّفي الدّاخل الفلسطيني. ونعني بهم هنا مثقّفي فلسطين المحتلة عام 1948، بغضّ النّظر عن طبيعة مواقفهم الوطنية وانتماءاتهم، وذلك فقط لمجرّد أنّهم أجبروا على حمل الهوية الصهيونية! كان من المفترض أن يقوم المثقفون العرب والمؤسّسات الثقافية العربية بدور مهمّ في هذا المجال، وذلك بكسر الحصار الذي تتعرّض له النّخبة الفلسطينية المثقّفة، من خلال احتضان الكتّاب الوطنيين وطباعة أعمالهم الإبداعية والاحتفاء بهم باعتبارهم جزءاً أصيلاَ من الذاكرة الثقافية الجمعية العربية. على العكس من ذلك فقد تمّ تغييب هؤلاء الكتّاب، كما تمّ تغييب أرض الأحلام التي ابتلعها الغول الصهيوني عام 1948، وما زال ترابها ينطق بالعربية الفصحى. لقد استسلم الوجدان الثقافي العربي لفكرة ضياع الأرض الفلسطينية الأولى، وبالتّالي فقد أصبحت هذه الأرض ومن بقي فيها من أهلها في حكم اللاموجود! فلا أحد يكتب عنها ولا أحد يتذكّرها! إنّ هذا النسيان والتّغافل ربّما يكون أخطر بكثير من كلّ قضايا التّطبيع المطروحة التي ينشغل بها المثقفون العرب ليل نهار. كان من الممكن لاتّحادات الكتّاب العربية وللمؤسّسات الثقافية العربية أن تفعل الكثير على طريق استرجاع الأرض استرجاعاً رمزياً من خلال دعم الوجود الثقافي الفلسطيني هناك والتّواصل معه. كان من الممكن أن نكتب ونغنّي وننتج الأفلام ولكننا لم نفعل شيئاً ذا بال. فباستثناء رواية المبدع العربي الكبير إلياس خوري (باب الشمس)، وباستثناءات قليلة جدّاً ومتفرّقة لم نحاول إعادة الاعتبار لهذه المسألة الحيوية.
شعراء كثيرون في العالم العربي يكتبون عن مواضيع كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، كالكتابة عن الحشرات مثلاً ولكنّهم يأبون أن يخوضوا في الموضوعة الفلسطينية، والسّبب أنّهم لا يحبّون أن يشوّهوا كتاباتهم بمواضيع مباشرة، ك ما يدّعون!
مع احتلال العراق طفا على السّطح طراز جديد من المثقّفين العرب، الذين تعرّوا ورموا ورقة التّوت وارتهنوا للدولار. وعلى الرغم من أنّ هذه الفئة قليلة العدد وتتحرّك في الظّلام إلاّ أنّها للأسف موجودة، وتروّج للأمركة و(لجنّة) الديمقراطية على الطريقة الأمريكية حيث المطلوب نشر بضاعة (الإصلاح وحريّة الرأي) ولكن دون أن تخدش هذه البضاعة سلامة الكيان الصهيوني. أو (وداعة) القنابل الأمريكية التي جاءت لتحرّرنا من الديكتاتورية!
« لقد قرأت شعراً لكثير من الشعراء الشّيوعيين من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأرغون وماو تسي تونغ والشاعر السّوفياتي سيمنوف فوجدته سخيفاً، ولكنّني كشيوعي وكعنصر في الحزب كنت ملزَماً بالدّفاع عن هؤلاء الشعراء والادّعاء بأنّهم أعظم شعراء العالم «. هذا ما يقوله رائد الشعر العربي الحديث في معرض اعترافاته التي ينشر بعضها لأوّل مرّة، وذلك بعد الصّحوة التي أيقظته من سباته الذي استمرّ ثماني سنوات كاملة.
اعترافات السّيّاب هذه هل تشجّع المثقّفين العرب على التّوقّف ومراجعة التّجربة، وعلى الخروج على تعاليم القبيلة وتعاليم أمريكا؟ والانتقال بالثقافة العربية من حالة المراوحة إلى التّجذير والدّيمومة؟!