خلال تطورها تمر الرأسمالية ب (ازمات) كانت ولا زالت تعصف بالنظام الرأسمالي بمجمله، وتلك الازمات هي من صلب اسلوب الانتاج الرأسمالي ذاته،حيث يشترك الآلاف بل الملايين في خطوط إنتاجية مختلفة لإنتاج (السلعة) ولكن ملكية تلك السلعة تعود ليس للملايين المنتجة،انما لفئة قليلة من المالكين.
كلمة ازمة توحي للوهلة الاولى،بأن لا مخرج إلا بانهيار كامل النظام، ولكن ما حدث تاريخيا هو ان الرأسمالية خرجت من ازماتها المتتالية باستخدام كل ما أمكنها من وسائل قذرة، وخاصة الحروب وتشويه الوعي،لإعادة إنتاج نفسها.
قبل تصدير ازماتها للخارج كان الاحتقان الداخلي في اوروبا،التي تحولت للتو الى الرأسمالية هو سيد الموقف،حيث تفجرت اضرابات العمال، التي أنشأت قسرا مؤسسات المجتمع المدني وتحسين ظروف الانتاج والحد من طغيان رأس المال واستعباد المنتجين، ولكن الازمة لم تنته عند هذا الحد، بل تنامى الوعي الاجتماعي،رغم التشويه الفكري،وتعمق الاحتقان الى درجة حرب غير معلنة،فانبثقت (كمونه باريس) التي استولى خلالها العمال على مركز قيادة الدولة في باريس وهروب المسؤولين منه،ولكن ذلك لم يستمر سوى بضعة ايام،استطاع بعدها الرأسماليون بمعونة قواتهم المسلحة القضاء على الاحتجاج.
استطاعت الرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين استكمال سلطاتها المركزية وإنشاء جيوش قوية مجهزة بآخر ما توصلت اليه مصانع السلاح في اوروبا،فنقلت ازمتها الداخلية الى الخارج من خلال الحرب العالمية الاولى التي اشاعت الاستعمار القديم (الاحتلال المباشر) وتقاسمت العالم تحت شعارات قومية وعنصرية وطائفية تبريرا للاستيلاء على مقدرات الشعوب.ولكن ازمة الرأسمال لم تنته عند هذا الحد،فانبثق في الداخل الاوروبي نظاما بديلا للرأسمالية في روسيا، واتسعت رقعة الازمة كي تشمل شعوب الارض كافة، وتنامت القوى المضادة للرأسمال وتكاتفت على شكل (عملية ثورية) تشمل الدولة الاشتراكية الوليدة وحركة المنتجين في الدول الصناعية وحركة التحرر الوطني في الدول النامية، كما تطور الوعي والعلوم الفكرية، التي تنبأت بانهيار النظام الرأسمالي،ومعه الاستغلال برمته،لأنه عاجز عن تحاشي الازمات المتأصلة والمستمرة.
لجأ النظام الرأسمالي بعد ذلك لتطوير صناعة السلاح، ليضمن تنشيط كل الصناعات الاخرى،لأنها مرتبطة به بشكل مباشر او غير مباشر، والسلاح لا ينتج ليكدس،انما يحتاج الى تصريف،فاندلعت الحرب العالمية الثانية التي كان هدفها الاساسي غير المعلن هو القضاء عتى التجربة الاشتراكية الوليدة،حيث جاءت النتيجة عكسية،وانتصرت تلك التجربة على الرأسمالية كلها وفي مقدمتها النازية.
يحضرني في هذا المجال قول مشهور لـ(تشرشل) رئيس وزراء بريطانيا ابان الحرب الثانية، حيث اتاه رئيس الاركان ليقول (سيدي : جرت محاولة اغتيال لهتلر وللأسف فشلت) فرد عليه تشرشل قائلا (تقول للأسف، يجب ان تقول العكس،فمن حسن حظ الحلفاء انها لم تنجح،إنما الذي يقال عنه للأسف هو هزيمة الالمان في لينينغراد)،هذا القول،الذي يعكس حقيقة الخرب،قاله تشرشل بعد ان احتل هتلر معظم اوروبا وأصبحت بريطانيا ذاتها في خطر.
هزيمة الرأسمالية هذه جعلتها تعيد حساباتها من جديد،وخاصة ان العملية الثورية العالمية تنامت بسرعة فائقة وعقدت دول الحلف اتفاق سلام ينهي الاستعمار القديم (الاحتلال المباشر) ويمنح الدول النامية حق الاستقلال والتحكم بمقدراتها،فلجأت الرأسمالية لأساليب جديدة لفرض هيمنتها وضمان استمرار لصوصيتها بحرب سميت باردة وإشاعة بؤر التوتر والفتن القومية والدينية والعنصرية وصولا للتدخل السافر في شؤون الآخرين والاحتلال المباشر.
لم تتفتق قريحة الرأسمال عن اساليب جديدة لإعادة انتاج نفسه،انما حاول التعمية الفكرية من خلال استخدام المفاهيم والمصطلحات بغير معانيها من (ديمقراطية) و(حقوق الانسان) و(الدول المارقة) وأخرى (معتدلة) ثم ختم ذلك بحرب تخريبية،تحرق الأخضر واليابس وتدمر البشر والحجر والتراث والآثار والفن والفكر في محاولة يائسة لحرف التطور.
قد تبدو الحرب الحالية محصورة في بقع جغرافية محدودة،وخاصة سوريا والعراق،ولكن اذا ما اردنا تقييمها من حيث عدد الدول المتأثرة بها او المشتركة بالمال او السلاح او المقاتلين او الدعم المخابراتي او الدبلوماسي او السياسي او كل ذلك،فإننا نستطيع بحق ان نطلق عليها (الحرب العالمية الثالثة)،وإذا ما أضفنا الى ذلك ان ادوات هذه الحرب هم عناصر الشعوب المقهورة،والدماء التي تسيل هي دماء الابرياء والمستضعفين في الارض،والشعارات المرفوعة هي خليط من قمامة الفكر والتخلف الحاقد على كل إنجازات البشر منذ آلاف السنين، نستطيع بحق ان نسميها (الحرب العالمية القذرة)،بالرغم من ان كل الحروب قذرة،ولكن هذه الحرب هي اقذرها على الاطلاق.
لقد خاض الرأسمال حربين عالميتين خرج منهما مأزوما أكثر،ولكن هذه الحرب سيخرج الرأسمال مهزوما بامتياز وسيتقلص نفوذه وهيمنته ليضمحل تدريجيا ويموت.
نحن على اعتاب نظام عالمي جديد وموازين قوى جديدة ستعيد صياغة العلاقة بين المنتجين والمالكين وتنهي بذلك تاريخا من الظلم حاربته الاديان والأعراف والنزعة البشرية الحرة.