«إلى غادة»
* أكتب إليها وأعلم يقينًا أنها لن تقرأني -ليس في وقتٍ قريبٍ على الأقل- صديقتي التي تخاف القطط، ولكنها على استعدادٍ للتظاهر في ساحة» سعد الله الجابري»..
* «سلامٌ! أنا في أسوأ حالاتي، حالةٌ من التيـْه والتشردِ، فالشيطانُ حشد لنا جنودَه»! كانت هذه آخر رسالةٍ نصيةٍ وصلتني منها في شهر تموز / يوليو من العام الماضي، وحاولتُ الاتصال بها لاحقًا دون جدوى، ثم كان ما كان من أمر النزوح! لم تكن الوحيدةُ التي فقدتُ الاتصال بها، هناكطالباتي اللاتي تقطن أكثرهن في مناطقَ قريبةٍ من المدرسة وهي مناطقُ ملتهبةٌ دومًا، وكانت أصوات قذائف الهاون تقلق راحةَ الليل وتكشف عن نفسها صباحًا أنّها وقعت في هذه المنطقة أو تلك فتخبرنا من مات ومن عاش،الليل كان رهيباً حقاً..!!
* كان ليل حلب مختلفًا في شهر أيلول من العام الماضي، فلم يكن لديه وقتٌ لسماع «قدود صباح فخري»، لأنه ساهرٌ يصغي إلى أنين الريفِ الذي تقصفه المدينةُ بالهاون! ليست حلبُ وحدها هي التي تتغير سريعًا يا غادة، كنتِ غاضبةً من البنايات التي تظهر بين عشيةٍ وضحاها، والمحالّ التي يغير أصحابها شكلها وهويّتها وبضاعَتها أكثر من مرةٍ في العام، ولكنّ الأمورَ تغيرت منذ ثلاث سنوات، و»الحمدانية» التي تستقبلنا عادةً بالأبنية الحديثةِ المكسوةِ بالحجر الأبيض، ارتدتِ السواد مرغمةً !لن أعرف حلب دونك أبدًا، فقد تغير فيها كل حجرٍ، إن ظل فيها حجرٌ! تبدو البناياتُ التي دمرّها القصف شبيهةً بتلك التي يدوسها الوحوش الذين يحاربهم «جريندايزر»، غير أنها لا تعود للنهوض من تلقاءِ نفسها في صباح اليوم التالي كما في «مغامراتِ الفضاء»!
* كانت مدرّسة التاريخ تردّد على مسامعنا في سنواتِ الدراسِة بأن التاريخَ حكايةٌ، لكنها أبدًا لم تخبرنا بأننا قد ندخل التاريخ من أوسع أبوابه -ولست أدري إن كان له بواباتٌ أخرى ضيقةٌ- كما أنها لم تخبرنا بأننا سنكتب هذه الحكاية كلٌ بحسب قلمه! ترى إلى أي مدى قد تختلف الرؤيةُ بيننا أنا وأنتِ باعتباري «نازحةً» وباعتبارك «صامدة» إلى الرمق الأخير؟!
* ليس لديّ في غربتي من أكاتبه وأنت بعيدةٌ، أغمس يدي في الحبر وأُضيع نهاري بانتظاراتٍ ممضّة، ويوفّرني الليلُ لهواجسَ تطلّين بها عليّ فأستعيد فرحك الطفولي بيوم ميلادي الذي يوافق بدء الثورة، رغم أني كنت أنسى يومك، تسربّه الذاكرةُ «الشريرة» لكنها لم تستطعْ التخلّص منكِ في زحمة الأشياءِ التي غيّبتها، «فلي ستظلين يا أخت روحي»!
* «أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي
على عنقٍ لا تعانق غير الغمام
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ
حين اغترب..»