رأينا في المقالة السابقة كيف أن الشاعر لم يمكنه أن يتخلى عن حلم الخارطة وهو يرى الفشل الذريع لذلك العبور المميت المضيء لمن تقدموه وقد ضاع بلا أثر؟ فلو كان العبور لمن سبقوه بلا أثر لما رآه شاعرنا الحالي ولما التفت خلفه !! والشاعر لن يستدعي ناقة أو جملاً من جديد لتوصله إلى نهاياته الكريمة !! بل سيقرب مربط الموج، وسيركب الموج لمجابهة نازع السواد والفناء. وربما كان في البعيد من رمزية الموج هنا موجة الشعر كذلك.
هكذا إذًا يختلق أحمد العلي بضاغط من قلق التأثر أبًا شعريًا أو أحد الأوصياء يحاوره، ويناوره، ففي قصيدة (رفض) التالية مباشرة لقصيدته التي تحدثت عنها في المقالة السابقة يقول:
“ كلا
لا تُعلّمني كيف أُحَنّطُ الشمسَ، لا
ولا الغوصَ في بُحيرات الزبد..
أنا أصبو،
أنا أرنو،
وتتراكضُ فيّ أشرعةٌ
ويُشعشعُ زهرُ... “(6)
إلى أن يقول:
“و أعقدُ الآن حاجِبَيّ
تجاعيدُ جبينيَ
آيةٌ عربيّةٌ
وفي ماء عينَيّ
يشتعلُ الحطب. “(7)
نعم التجاعيد آية عربية مبينة كما يقول، لكنه سيشعل حطبًا من ماء عينيه. وهذه التجاعيد العربية هي إرث مثل إرث جلجامش أيضًا، الذي يقول عنه:
“ إرثُ جلجامش فينا
سؤالٌ يتيمٌ
لا أجدُ عن صبواته مَفَرّاً
ألكُزهُ كُلّ بَدرٍ
لأعدو وأعدو.. “(8)
تلك رسالة الشعر التي على الشاعر أن ينهض بها من الرماد. يقول :
“ قُل لي أيّها الشّاعر
ما الشّعرُ إذا لم يكُن شَبكاً
نصيدُ به الموجَ
ليركض في بيوتنا... “(9)
ويبلغ إصرار الشاعر مداه في مناهضة السواد ومناوءة الدمار والشغف بفكرة البعث من جديد في القصيدتين الأخيرتين من الديوان خاصة في قصيدة ( أرجوحة المقبرة ) التي تدعو القارئ للتساؤل عن نوع المقبرة التي تحوي أرجوحة؟ وهو ما لا يحتمله الواقع ولا يتوقعه القارئ. وهذا ما يفعله الشاعر ليجعل القارئ يبحث عن هذا الوضع الغريب والاستثنائي في المقبرة ، فلمن الأرجوحة؟ ومن يتأرجح أو يتسلى بها؟ هنا يثور مع عناقيد الغبار فيها والثرى قلق الأسلاف والآباء كأوضح ما يكون فهؤلاء الذين مضوا ما زالوا يلهون ويتأرجحون مقبلين مدبرين.