عبر تقنية دائرية مرعبة، ينهض السرد الروائي في رواية أمبرتو إيكو الرائعة: (باودلينو)، ليروي من مسرح المكان أحداثاً انتهت للتو. وهكذا حين يبدأ بطل الرواية (باودلينو) روايته للمؤرخ والنبيل القسطنطيني (نيستانس) يكون قد التقاه تماما بعد الأحداث المرعبة. وفي اللحظة التي يقع فيها (نيستانس) ضحية للحكي المدهش، رغم الخراب والدخان الذي يتصاعد في سماء المدينة، يقع الراوي/البطل ضحية للتأويل القاتل، في نهاية السرد، من الحكيم (بافنوزيو).
ويتوازى السرد الدائري في بنية النص، كما في تأويله، مع الوقائع والأحداث ضمن بناء محكم بين الخيال الآكزوتيكي (الغرائبي)، والمنطق البوليسي المذهل في هذه اللعبة اللغوية والفلسفية للسيميائي الإيطالي الكبير (أمبرتو إيكو)، الصادرة عن المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ الدار البيضاء 2003 بترجمة: نجلا حمود والشاعر اللبناني بسام حجّار.
على مدار الحكي تبدو القسطنطينية في خلفية مشاهد السرد، لوحة قر وسطية بامتياز لمسرح الحروب الدينية في أوربا، حيث ألسنة اللهب ودخان الحرائق التي أشعلها الحجاج اللاتينيون. وفي مناخ الحرائق ذاك، الذي بدا كمشاهد مصاحبة لمسرح السرد، استطاع (إيكو) أن يتأول الدلالة التاريخية للعصور الوسطى، حيث يسرد (باودلينو) لــ(نيستانس)، طوال أيام الفوضى العارمة، وأثناء نهب الحجاج اللاتين لمدينة القسطنطينية، نذوره الهرقلية، ويستعرض حياته في خدمة الإمبراطور (فريدريك) إمبراطور جرمانيا، ورحلته للبحث عن مملكة الراهب (جان) في أقاصي الشرق البعيد. ومن خلال هذا الحوار، الذي هو تقنية السرد الكاملة، يستعيد (إيكو) القلق الوجودي للمعرفة البشرية، ويستعرض الحدود المضنية للميثولوجيا المسيحية في العصور الوسطى التي تستحيل هنا فضاء ً لمغامرات تكتشف عبثيتها في الأوهام المتبادلة بين الفعل الإنساني، ورغبة الكشف عن تحقيق النذور الدينية عبر تأويل الأسطورة والسعي إلى تحقيقها في مستوى الإيمان الديني الذي يماهي بين الأوهام البشرية وطاقتها الخطيرة. ومن ثم تتكشف رحلة البحث عن المستحيل / المتخيل. ويستخدم (إيكو) في هذا النص الضخم على مدار ستمائة صفحة، معرفة سجالية افتتنت بالسفسطة التي التبست اللاهوت المسيحي في تفسير العالم، وصورة الكون، وأصل الخليقة، عبر مدونات العهد القديم والجديد؛ فـ(باودلينو) الذي كان يُخضع تصوراته الدينية لمخيِّلة خصبة لا تكف عن اختراع الأوهام وتركيبها، سحر الإمبراطور (فريدريك) بتلك القدرة على تصوير الكلام، أثناء مرور هذا الأخير متنكرا في إحدى حملاته ببلدة (فراسكيتا) الإيطالية، فتبناه ابنا ً له بمباركة أبيه (غاليادو) الذي رأى في قطع الإمبراطور الذهبية خلاصا مزدوجا وسعيدا من ذلك الصبي الذي يخترع الأكاذيب بمهارة لا يحسده عليها المسيحيون الطيبون، وكان آخر تلك الأكاذيب: أنه رأى القديس «باودلينو» لوهلة في غابة الفراسكيتا.
وهكذا صحب بهذا الاسم الإمبراطور (فريدريك) الذي علمه اللاتينية والنحو واللغات على يدي الأسقف (أوتون).
تبدأ غواية النص من تلك الحيرة التي أصابت (باودلينو) حين محا بعض رقوق الأسقف (أوتون) حيث أصبحت طروسا ً لكتابات منطمسة، مما سمح له بملء بياضها بالأخبار الكاذبة، التي أصبحت فيما بعد أهم قدراته في تأويل المعاني الدينية للإمبراطور (فريدريك).
ويقع (باودلينو) على ميول مشابهة لمهاراته في اختراع الأوهام مع زملاء درس معهم اللاهوت في باريس حين ابتعثه الإمبراطور (أصبحوا فيما بعد أصدقاء ورفقاء درب) منهم (عبدول) الخلاسي المسلم، و(الشاعر)، ويلتقي هؤلاء الثلاثة في باريس هواة أكثر حذقاً بالنصوص الفلسفية واللاهوتية وهم: (بورون) و(كيوت) و (ربي سليمان) اليهودي. ليتفقوا بعد جدل طويل على التخطيط لرحلة البحث عن مملكة الراهب (جان)، (بعد الاطلاع على مدونة سرية تصف الرحلة إلى مملكة الراهب جان، وجدوها في دير قديم بباريس)، ابتداءً بتدوين وصف أسطورة (الغردال).
لكن هذا البحث ينطوي لدى كل واحد منهم على أسطورته الخاصة، حيث يبحث (ربي سليمان) عن الأسباط اليهود في مملكة الراهب (جان)، ويبحث (عبدول) عن أميرته البعيدة. ..الخ.
ولأن الرواية تتوسل السرد الميثولوجي في جدل العصور الوسطى عبر اللاهوت والفلسفة، وهي حقول ربما كان الحوار أفضل تقنياتها السردية، إلا أن إيكو اشتغل كثيراً على دمج هذه المادة المعرفية في لغة حوارية شفافة، تنطوي على سخرية لاذعة. وضمن هذه السخرية يختبر إيكو المعنى الملتبس والغامض لمفاهيم دينية بسيطة، أصبحت تجد تأويلاتها، بفعل الجدل الأرسطي وأصداء فلسفة القديس (توما الأكويني) في مقولات معقدة، لعبت دورا كبيرا في إيمان العامة والملوك في أوربا في ذلك العصر، ولذلك يجهد باودلينو ورفاقه في وصف (غردال) المسيح بأشكال الزمرد والياقوت والذهب الخالص، دون أن يتفقوا على مادتها، فيذهب بهم الخيال بعيدا بصور تحيل على الدلالة الزمنية (الدنيوية) والسياسية للغردال، أكثر من معناها الديني البسيط. ذلك أن (الغردال) هنا هي حيلة دعائية لإقناع الإمبراطور فريدريك ليقدمها للراهب (جان) في الشرق البعيد من أجل أن يعمده إمبراطورا وقديسا في الوقت نفسه، على عموم ممالك أوربا. ومن ثم التحرك إلى لقاء الراهب جان في رحلة طويلة إلى الشرق.
بيد أن الالتفات إلى المعنى الديني البسيط لـ(الغردال) لا يأتي من التأويلات اللاهوتية المعقدة أو من المعنى المادي الدنيوي، وإنما يقع عليه (باودلينو) فجأة في لفتة ساخرة، بعد ذلك بسنوات، حينما يزور أباه المزارع البسيط (غاليادو) على فراش الموت، وهو يحدث أباه عن أيقونة (الغردال) الثمينة للسيد المسيح، فيرد عليه أبوه قائلا: (هل أدركت الآن أن رأسك هذا فارغ من أي عقل ؟ إن سيدنا المسيح كان صحبه من الفقراء مثله، لقد ارتدى الثوب نفسه طيلة حياته، كما قال لنا الكاهن في القداس، ولم يكن في هذا الثوب خياطة لكي لا يبلى قبل أعوامه الثلاثين. ثم تأتي وتقول لي إنه كان يحتسي النبيذ بكأس من ذهب ولازورد ؟! كذبك غير متقن ومفضوح وواضح. لكانت رأفة من السماء لو أنه امتلك قصعة مثل هذه منحوتة من جذع يابس كما فعلت أنا).
هنا فجأة يكتشف (باودلينو) أي عبث كان فيه، ويجد فرصته الذهبية للحصول على الغردال قائلا في نفسه: (إنه محق هذا العجوز البائس، لابد أن تكون الغردال قصعة مثل هذه بسيطة وفقيرة مثل السيد المسيح، ولهذا قد تكون هنا في متناول الجميع ولم يتعرف عليها أحد من قبل، لأنهم قضوا أعمارهم يبحثون عن شيء يبرق).
وإذ يكتشف (باودلينو) هذه الذخيرة المقدسة يقوم بغسل قصعة أبيه الخشبية وينظفها لتكون بذلك حجة بالغة لإقناع الإمبراطور (فريدريك) للتوجه شرقا ً نحو مملكة الراهب جان بهذه الغردال، بدلا من تأديب المدن الإيطالية المارقة. فيقتنع الإمبراطور حين يرى الغردال، ويحتفظ بمفتاح مذخر الغردال في عنقه طوال الرحلة.
في مستويات السرد المتعددة استطاع (أمبرتو إيكو) أن يرسم بانوراما الفضاء الأوربي للمسيحية من خلال حروب المدن الإيطالية، ونماذج الفرسان، وصراع الباباوات، والخلافات المذهبية بين الرومان واللاتين، ودواعي الحروب الصليبية، وفساد الرهبان، على ما تشير صورة الراهب (زوسيموس)، الذي امتلأ فجورا ً وخبثاً. ويرسم (إيكو) من خلال دلالات الأسماء، هواجس الرعب المتبادلة بين الأمم المسيحية وخوف الحجاج المسيحيين من (برابرة الشرق) الذين يزرعون الشر في طريق الحجاج أثناء عبورهم بالمشرق لبيت المقدس. كالأرمن والترك. وفجأة ً تتحقق تلك المخاوف جملة واحدة، عندما يموت الإمبراطور - أثناء الرحلة - في ظروف غامضة في قلعة رجل أرمني غريب الأطوار، يدعى (أرظروني) « تأمل في الإيقاع الغامض والمخيف للاسم « في غرفة رطبة من البيت الذي يستعمل فيه (أرظروني) آلات علم الحيل (الميكانيكا) وطقوسها المخيفة التي تفسد الهواء. وبموت الإمبراطور تختفي معه (الغردال).