سعدتُ بدعوة كريمة من الصديق سليمان بن عبدالعزيز العقيلي، أكدها الأخ العزيز فهد بن عبدالله العجلان نائب رئيس التحرير، لحضور محاضرة الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، التي نظمها نادي المذنب الأدبي في القاعة الرئيسية بمركز الأمير سلطان الحضاري بمدينة المذنب بعد مغرب يوم الخميس الموافق 29-6-1434، وسط حفاوة غير مستغربة من أهالي المذنب بالضيف والحضور من الأدباء والإعلاميين والمهتمين بالشأن الثقافي.
بدأت المحاضرة التي أدارها الأستاذ سليمان بن عبدالعزيز العقيلي بتقديمه للضيف، بوصفه أحد تلاميذه، قبل أن ينطلق المحاضر في بسط ما لديه وتلقي المداخلات.
أظهر المحاضر تواضعاً جمًّا، وتلمس كل طريق يبعده عن مزالق الأنا وتكريس الذات؛ إذ أكد أن تجربته لا تحمل الكثير مما يشجع الحضور على سماعه، فقال: «في البداية، الشكوى إليكم ممن استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فبدلاً من خيار الأخذ باقتراحي للحديث عن سيرة عالم جليل نشأ في إقليم السر المجاور يصر ناديكم على استضافتي للحديث عن تجربة متواضعة لا أظن في استحضارها كبير فائدة». هذا النوع من التواضع يصنف بأنه من تواضع الكبار الواثقين من أنفسهم وثراء تجاربهم، فيؤثرون على أنفسهم ليقينهم من تعطش المتابعين لاستجلاء تجاربهم وسيرهم؛ ليستلهموا منها الدروس, ويأخذوا منها العِبر التي تنير لهم دروبهم في الحياة. فالمحاضر ومن خلال استعراضه لتجربته الطويلة الممتدة منذ عام 1383 حتى اليوم مرَّ بتجارب وخبرات متنوعة ونوعية وثرية، وكل واحدة منها تشكل حياة عملية مستقلة بذاتها رغم ارتباط تلك الخبرات ببعضها، وتداخلها في بعض الفترات. فمن البداية في الإذاعة السعودية بجدة إعلامياً بسيطاً، يتقاذفه الزملاء السابقون كما يقول تارة في التدريب غير الممنهج، وأخرى في تقديم البرامج، وثالثة في الإعداد، إلا أن تلك البداية حملت أهمية خاصة كونه احتك بإعلاميين كبار، مثل منير شماء وعزيز ضياء ومحمد صبيحي، وتعرف على أدباء كبار أمثال محمد حسين زيدان وحسن عواد وطاهر زمخشري وحمزة شحاتة وغيرهم، لترددهم على الإذاعة للمشاركة في برامجها. ولا شك أن هذه البداية القوية قد شكّلت أرضية صلبة لمحاضرنا؛ ليواصل مشواره بثبات وقوة.
وربما لو طالت تلك الفترة لمنحته المزيد من الخبرات، لكنه آثر العودة السريعة للرياض، وكأن الحنين إلى نجد قد زاد عن حده، فعاد ليعمل في إذاعة الرياض الوليدة. ولعل اللافت في سرد المحاضر تجربته أنه عُيّن مساعداً لمدير الإذاعة في الرياض وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين، وهو مؤشر على نبوغه المبكر وقدراته القيادية. وفي تلك الفترة المبكرة - كما يشير - حظي بشرف تمثيل المملكة خارجياً موفداً لتغطية مؤتمر القمة العربي الثاني عام 1384، وهو الحدث الذي نقلت فيه الإذاعة لأول مرة في تاريخها وعلى الهواء مباشرة كلمة الملك فيصل يرحمه الله.
في الإذاعة كانت البدايات، لكنها بدايات قوية وسريعة ومتلاحقة الأحداث؛ ما يدل على أن الدكتور الشبيلي يكتنز إمكانات كبيرة أهَّلته لنيل ثقة المسؤولين، وربما قوى هذه الثقة قدرته على التكيف مع مختلف الأجواء التي مر بها، وذكاؤه الاجتماعي الذي مكنه من بناء علاقات جيدة.
بيد أن من المحطات الفارقة في مسيرته الإعلامية عمله في التلفزيون السعودي عند بداية بثه؛ إذ عمل مديراً لبرامج التلفزيون مع الأستاذ محمد حيدر مشيخ مواكباً انطلاقته المتواضعة حين كان يبث فترة واحدة بين المغرب والعشاء قبل أن تتطور بعد نحو ستة أشهر لفترة بث أطول امتدت أربع ساعات. من الواضح تشبُّع المحاضر بالخبرات إثر تقلبه في أكثر من منصب بين الإدارة والإشراف وتقديم البرامج، مثل برنامج «حديث الأصدقاء»، الذي كان يستضيف كبار المسؤولين. وأبدى الشبيلي أسفاً على إضاعة التلفزيون كل تسجيلات ذلك البرنامج الرائد. وتعاون المحاضر - كما ذكر - مع الشاعر المعروف محمد الفهد العيسى لعرض الفنون الشعبية من سائر أنحاء البلاد.
ولعل أبرز الملامح في مسيرة التلفزيون - بحسب المحاضر - مشاركة مجموعة من المشايخ الأفاضل، في وقت تضاءلت فيه موجة الاعتراض على دخول التلفزيون في المجتمع السعودي، وتنامت موجة القبول العارم القنوع بتواضع برامجه آنذاك. وأعتقد - من جهتي - ألا أحد ممن عايشوا تلك الفترة لا يتذكرها ويسترجعها بكل تفاصيلها، بل يتلذذ بعبق ذلك الماضي الجميل، وهو زمن كان التلفزيون فيه أحد أبرز مصادر المعرفة والتنوير، في وقت شحت فيه أقنية المعلومات وأوعيتها إلا من الكتاب والإذاعة وقناة تلفزيونية وحيدة.
تحقق الابتعاث للشبيلي في صيف 1387 عشية زواجه تلبية لرغبته في إكمال دراساته العليا، وكي يتمكن من إتقان اللغة الإنجليزية، ويطلع على أساليب العمل التلفزيوني في المحطات العالمية. لكن الابتعاث كان بأمانة نقطة تحوُّل بارزة في مسيرته؛ إذ فتح الطريق أمامه بعد عودته بالدكتوراه في صيف عام 1391 ليعيَّن مديراً عاماً للتلفزيون، وليجد الفرصة أمامه سانحة لينفذ بعض الأفكار التي كان يتوق أن ترى النور، ومنها الارتقاء بمضمون البرامج التلفزيونية، وتنظيم التنسيق بين المحطات الخمس لتبادل البرامج بينها، والاستمرار في ابتعاث الموظفين للدراسة، وتحويل التلفزيون من الأبيض والأسود إلى الملون، والبدء في التعاون مع دول الخليج إعلامياً. ولعل كل هذه الأفكار قد تحققت رغم قصر الفترة، علاوة على تقديمه برامج تلفزيونية جديدة، مثل حوار مفتوح، مؤتمر صحفي وشريط الذكريات.
مر الشبيلي في محاضرته التي لم تتجاوز الساعة على بعض المحطات العملية في حياته سريعاً، ومنها عمله في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود، إذ مر عليه دون تعمق مبرزاً فقط تأليفه كتابه الإعلام في المملكة، وعلاقاته الجميلة مع طلابه في ذكريات زاهية لا تُمحى معهم إلى اليوم. وعرج كذلك سريعاً على فترة عمله عضواً في المجلس الأعلى للإعلام منذ عام 1401، وميز من إنجازات المجلس الذي رأسه صاحب السمو الملكي الأمير نايف - يرحمه الله - وزير الداخلية آنذاك صياغته للسياسة الإعلامية، وتحديثه لنظامي المطبوعات والمؤسسات الصحفية، ووضعه استراتيجية الإعلام الخارجي، ثم أبدى أسفه على إلغاء المجلس الذي قضى في عضويته أربعة وعشرين عاماً؛ لأنه - حسب رأيه - أحدث فراغاً نظامياً، كما أن الاتجاه الحديث في العالم وفقاً لقوله ينحو إلى إلغاء وزارات الإعلام، ويكتفي بجهة رقابية تنظيمية، تكون في الغالب في شكل مجلس للإعلام.
وتحدَّث بابتسار عن تجربته الطويلة في مجلس الشورى التي امتدت اثني عشر عاماً، ولم يقف ولو برهة ليتحف الحضور برأيه عن هذه التجربة الطويلة التي استغرقت ثلاث دورات متتالية. أما تجربته في التعليم العالي فقد أتى عليها عرضاً عند حديثه عن التدريس في الجامعة والعمل في مجلس الشورى. وسرد تجربته في الكتابة الصحفية في أكثر من مطبوعة، وكيف أنه استفاد من مقالاته المتنوعة في تأليف كتبه التي قارب عددها ثلاثين كتاباً، إضافة إلى اثنتي عشرة محاضرة مطبوعة، تدلل على عمقه وحبه للبحث والتوثيق، وإدراكه الكامل لدوره في مجتمعه، ولعل أبرزها - وفقاً لما أشار إليه في ثنايا محاضرته - كتابه «نحو إعلام أفضل»، وكتاب «أبو سليمان» وهو في السير والتراجم.
ورأى الشبيلي أن عمق الدروس المستفادة من رئاسته لمجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية يحتم عليه الإشارة إليها؛ إذ تمكّن خلالها من الغوص في تنظيمها الداخلي وسبر أسلوب العمل بتخصيصه أياماً للحضور الفعلي، والتعرف على بيئة المؤسسة الصحفية من الداخل. وعلاوة على تلك التجربة فقد مر بتجربة صحفية أخرى بالاشتراك في مجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر. ويلخص المحاضر تجربته بمراحل تتمايز عن بعضها كما يأتي:
- سنوات من العمل التنفيذي في الإعلام، تخللتها البعثة الدراسية.
- سنوات من العمل الإعلامي ذي الصبغة التنظيمية في المجالس ووزارة التعليم العالي وقسم الإعلام بجامعة الملك سعود.
- الفترة الحالية التي اقتصرت على المشاركة التطوعية الفاعلة في المنتديات الثقافية ومواصلة النشر والتأليف والتوثيق.
واعترف بوجود معوقات كثيرة بسبب شح البيئة الإبداعية والإمكانات الفنية المحدودة، وأكد أن لكل فترة زمنية رجالها وظروفها وإخفاقاتها ونجاحاتها.
لعل في استعراض وتحليل هذه السيرة المتنوعة مدخلاً لإقناع الدكتور عبدالرحمن الشبيلي بحاجة الأجيال الحالية لمثل هذه التجربة الثرية، وأن روايته لتجربته الباذخة لا تأتي من باب الحديث عن النفس، وأن ما مر به من تجارب وما أسهم به من جهد في دفع الانطلاقات الأولى للإذاعة والتلفزيون يتيح له دون منة أن يكون رمزاً من رموز الإعلام في المملكة العربية السعودية.
بعد نهاية المحاضرة فُتح المجال للمداخلات والأسئلة، وقد أخذت نصيباً وافراً من الوقت، وجاءت أبرز إجابات المحاضر في الآتي:
- يؤيد بشدة التوجهات الجديدة لإنشاء هيئة الإذاعة والتلفزيون، ويرى أن نجاحها مرتهن بعناية المسؤولين بالكفاءات.
- يرى أن الإعلام حالياً بحاجة كبيرة للمرونة والاحتراف.
- لا يميل إلى البرامج الحوارية المباشرة، ويعدها من أضعف أنواع البرامج، ويرى أنها كانت سبباً في سقوط أكثر من ضيف في فخها.
الرياض