(أ)
كُلّما مرّت أزمة سياسيّة بالمنطقة العربيّة تكاثرت معها أزمات أخرى -كان المتفائلون يظنّون أنّها ولّت إلى غير رجعة، وبعضها مسائل معلّقة منذ زمن الاستقلال - وتأكّد خواء العمل السياسي العربي في معالجة الأزمات والاستفادة منها، بينما الذي يحدث ويتكرّر هو الإقامة والتأقلم في الأزمات، أو توهّم معالجتها عبر حلولٍ جاهليّة أبسط ما فيها التقسيم، ولكم أنّ حُرمةَ السِّلْم الأهلي في المنطقة العربيّة مهدّدةٌ بانتهاكات من الداخل بسبب الحلول الجاهليّة المسنودة على حجج عرقيّة وإثنيّة ودينيّة، يتحمّل وزرها خطاب الأكثريّات الاجتماعيّة والسلطات السياسيّة.
إلى أين مضت طروحات الفكر السياسي العربي التي قدّمها طيلة مئة عامٍ عن المدنيّة ومفهوم المواطنة والسكّان الذي يتجاوز العرق والدين والطبقة؟ أيّ فجوة تزداد بينه وبين أصحاب القرار السياسي؟ ولماذا ترى صنّاع القرار السياسي أقرب إلى (الأكثريّات المصنّعة) يتأثّر بها ويصنع خطابه على هواها؟ فالأكثريّة المركّبة التي شكّلت البرمجة السلطويّة والتوجيه الإعلامي خطابها المشوّه تعلّقت بهذا الخطاب وقد بدا لها أنّ حبل وجودها وعصمتها، وهذا الخطاب قد تحوّل إلى (مانح شرعيّة) للأقليّات السياسيّة الحاكمة، وهذه العلاقة بين أكثريّة مركّبة وأقلّية سياسيّة تمايز سكّان الدولة، فتشرّع جزءاً منها، وتجرّم جزءاً آخر لأنّه مختلفٌ؛ ولكم تبدو المنطقة اليوم: (التي دخلت في الإسلام السياسي، وواقعاً أنّها لم تكن يوماً بعيداً عنه) في سباقٍ محمومٍ على أسلمة جميع المصطلحات السياسيّة الغربيّة (تحديداً)، وفي المقابل تتضاءل قوّة الخطاب الرافض لهذه الأسلمة جملة وتفصيلاً، لأنّ أتباع هذا الخطاب لا يملكون وسائل إعلام مؤثّرة، ولأنّ خصمهم/ العملاق - أساساً - هي الأكثريّات الاجتماعيّة: (الدينيّة، العرقيّة)؛ فأيّ خطابٍ سياسيّ سوف يلقى صداه وأنت تسحب من الأكثريّات الاجتماعيّة امتيازاتها عن شركائهم في الدولة وصلاحياتهم، وتحمّلها بالاشتراك مع الأنظمة مسؤوليّة الاستبداد السياسيّ وتبعاته على السِّلم الأهلي والتقسيم والانفصال.
(ب)
يأتي على رأس المصطلحات الخاضعة (للأسلمة) إصرار الإسلام السياسي أنّ الديمقراطيّة هي في الأساس منتج إسلاميّ - الشورى، ونشأة المسألة مردّها التعامل الجامع - عمداً - بين مفهوم الأكثريّة السياسيّة وإسقاطه على أكثريّة اجتماعيّة، لأنّ الفصل بينهما يرفع الغطاء عن الأنظمة السياسيّة ويكشّف أنّها أقليّات سياسيّة قد لا تستأثر بالقرار السياسي إذا تمّ الفصل بين الأكثريتين دستوريّاً وسياسيّاً؛ فكلّ دول المنطقة تحت أنظمة سياسيّة أقلويّة تعمل جاهدة لاستغلال الأكثريات الاجتماعيّة لشرعنة سلطتها.
أوصلني البحث في الأكثريّة المركّبة (المنشور الخميس الماضي - المجلة الثقافيّة العدد 406) إلى أنّ وجود الفرد طبيعيّ أم وجود الأكثريّة فإنّه افتراضيّ، ووصلت إلى قناعة عدم وجود أكثرية صامدة لا تتجزّأ، وإنّ الإيحاء والإصرار على ذلك إنّما هو عملٌ محض سياسي، تمارسه أقليّة سياسيّة لا ترتكز إلى أيّ منظومة ديمقراطيّة وتريد أن توحي وتسوّق لأقليتها السياسيّة بالاستناد إلى أكثرية اجتماعيّة، وهذا أساس مقتل العربي اليوم أنّه عاجزٌ عن إنشاء كيانات تؤمن بمفهوم السكّان - المواطنين (وليس القوم أو الشعب).
وأنتَ لا تعلم كيف تغفل الأكثريّات الاجتماعيّة (المصنّعة والمركّبة) عن مخاطر خطابها الخاوي، أو كيف وصلت إلى هذا الحدّ من اللا - مبالاة لعواقب خطابها ونتائجه الكوارثيّة شاخصة أمامها: وهل كان انفصال جنوب السودان واقعاً إن لم يسيطر على صنّاع القرار السياسي خطاب الأكثريّات الاجتماعيّة الذي يبتر جزءاً من سكّان الدولة ويُعرّف المواطن وحقوقه السياسيّة بناءً على عرق الأكثريّة وديانة الأكثريّة؟! وما هي المداولات التقسيميّة في العراق، ليبيا، سوريّا، اليمن؟! وإلى أي مدى يمكن الظنّ: أنّ الدعوة الإسرائيليّة إلى يهوديّة إسرائيل متأثّرةٌ بما يفعله الجيران العرب من إنشاء دول عرقيّة ودينيّة - مذهبيّة!!
(ج)
يقول الإسلام السياسي: (الديمقراطيّة هي الشورى) تبريراً لاضطراره الاعتراف بها كآلية سياسيّة ضروريّة؛ فإلى أيّ مدى يتوافق في أسلمته للمصطلح بمرجعيّته التاريخيّة والدينيّة، أم أنّه يمارس إخصاء للمصطلح بإفراغه من مضمونه المُنتج!!
إنّ الضابط الرئيس للنظام الديمقراطي المتمثّلة بالعلمانيّة حِملٌ لا يقوى عليه الإسلام السياسي في مدوّنته الانتقائيّة التاريخيّة، فأيّ عاقل يقدر أن يُدرج نظام الملالي في إيران بالمنظومة الديمقراطيّة تحت استئصال الديمقراطيّة كآليّة انتخاب دون المنظومة وضوابطها، والحال في أيّ بلد عربيّ لا يختلف عن المثل الذي ضربته؛ وضابط الأكثريّة السياسيّة ممثّل بحقّ التصويت دون الخلط بين السياسة والأكثريّات العرقيّة والدينيّة؛ وبدون هذين الضابطين قد تنتهك حرمات السلم الأهلي, ويمكن (دائماً) لأيّ فريق أن يطعن بشرعيّة الأكثريّة السياسيّة لأنّها ليست إداريّة سياسيّة بل تستند إلى تميز عرقي أو ديني، والمسألة الكبرى هنا: (أنّ قيامَ الدولة تحت تأثيرات هكذا خلط مؤجّلٌ حتى تجاوز الخلط بين السياسة والدستور وبين الأكثريّات العرقيّة الدينية).
**
الديمقراطيّة قائمة على منطق الأكثريّة السياسيّة، والأكثريّة في المتن القرآني أو ممارسات الرعيل العربيّ الأوّل ليست ذات قيمة نفعيّة، إذ تأتي على دلالات تحمّلها خصائص: (النكران: ولا تجد أكثرهم شاكرين، الغدر: وما وجدنا لأكثرهم عهداً، والشرك، والعماء، والجهالة)، والآيات التي تدلّ على انحطاط الأكثريّة وفداحة الاحتكام إليها كثيرة، وهذا الذي يجعلنا نقف اعتراضاً على أسلمة مصطلح الديمقراطية إلى مصطلح الشورى، وتبيان التشويه بين دلالات المفهومين: هذا يحتكم إلى أكثريّة انتخابيّة ضمن منظومة سياسيّة لأجل اشتراك ممثّلي عن سكّان الدولة في إدارة شؤونهم، تحت اشتراط العلمانيّة الفاصلة بين السياسة والدين والأعراف أيضاً، والصانعة لمفهوم الأكثرية السياسية المفصول عن الأكثريّة الاجتماعيّة. وذاك يحتكم إلى أحاديّة - أو أقليّة نخبويّة، وهو مصطلح اختُلِقَ ولم يكن له منظومة في السياسة، ولعلّ الشواهد على اعتبار الشورى منظومة سياسيّة عند الرعيل الأوّل – كما يدّعي الإسلام السياسي - معدومة. فأيّ قراءة للنماذج الأربعة المختلفة عند الرعيل الأوّل لا تقدّم حجّة على أسلمة المصطلح، فلست تدري على ماذا يستندون! وليس بينهما أيّ تقاطع حتّى على مستوى دلالة المفردتين: فدلالة اللفظة اليونانيّة (ديمقراط: حكم الشعب) أمّا دلالة كلمة الشورى فإنّها تُعارض أيّ تأويل يُخرجها عن حدود (التشاور) ويدخلها في نطاق (الحكم نفسه)، كما إنّها لم تكن غائبة في تاريخ حكّام العالم كلّه، وليست غائبة عن أيّ نظام سياسي اليوم؛ شتّان إذاً بين دلالتين: واحدة تقرّر حكم الفرد وتنصحه بالمشورة، وأخرى تُلغي حكم الفرد وتردّه إلى الشعب. وربّما جاز لنا القول: إن الشورى مبدأ فطري موجود في أيّ نظام سياسي أو إداري من باب الاستشارة، وأنّ الرؤساء لا بد لهم من استشاريين يساهمون في عرض الخبرات والآراء والاحتمالات، لتكون الكلمة النهائيّة لصاحب القرار، لكن مبدأ الشورى الفطري لا يتحمّل قدرة احتواء الديمقراطية، لا كمفردة مبتورة ولا كمنظومة سياسيّة لها اشتراطات وضوابط.
وعودة إلى المتن القرآني فإنّ آية عمران/159 ?فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ? وآية الشورى/25: ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ? يحملان دلالات لا تتّفق مع نتائج المنظومة الديمقراطية، فالفروقات كثيرة ولا يستقيم بطرحها أيّ أسلمة لمصطلح الديمقراطيّة، دون أن نفرغ المصطلح من مضمونه في عمليّة إخصائيّة تجعله مصطلحاً عقيماً عن إنتاج ما يجب إنتاجه، والذي كان سبباً في نشوء المصطلح والمنظومة.
وهذا الإفراغ من مضمون المصطلح، أو إخصاء المصطلحات يُفضي إلى التوهّم بالتحضّر، بينما نحن ننقل مفردات الحضارة ونفرغها من مضامينها التي هي سبب الحضارة المُصدّرة، ونصنع لها مضامين أخرى تتوافق مع حضاراتنا الإنسانيّة البائدة.
(الديمقراطية هي الشورى).. كلمة مبتورة من نصّ مقدّس يفترضها إسلاميّو اليوم أنّها منظومة سياسيّة، -وهي، وإن كانت منظومة - فإنّها لا تصمد لتكون متشابهة مع المنظومة الديمقراطيّة، لطالما أساس الديمقراطية (الأكثرية والعلمانيّة)، وأساس الشورى: (أحادية وأقليّة دينيّة)، فكيف يستويان!!
Yaser.hejazi@gmail.com - جدة