في العدد 391 من هذه (الثقافية) بتاريخ 27 ديسمبر 2012 كان عنوان مقالتي (أيام الدواوين..!) وقد تحدثتُ فيها عن ديوانين شعريين تسلمتهما في يوم واحد بعد انقطاع طويل عن الإهداءات الورقية التي تكاد تختفي لتحل محلها النسخ الإليكترونية الأسهل والأسرع وغير المكلّفة (!) أحدهما مخطوط للشاعر مبارك بن دليم (أو ميمون السبيعي) بعنوان (جياد لا تكبو - عابرات وتبقين)، والآخر ديوان مطبوع للشاعر عبد الكريم النملة بعنوان (ضجيج قلب) صادر عن دار أزمنة في طبعة أولى مؤرّخة في 2013
لم يمض عامٌ كاملٌ على تلك المقالة، ولا يزال ديوان الصديق العزيز بن دليم مخطوطاً لم يطبع بعد، مع أن الرجل متفرغ تماماً للقراءة والكتابة (فهو لواء متقاعد منذ زمن) ويكاد يتنفس شعراً لفرط ما يحيط به من أجواء شاعرية في قريته الجميلة (الضبيعة)..!
أمّا الأديب عبد الكريم النملة، وهو موضوع مقالتي هذه، فأنا لا أعرفه شخصياً إلاّ من خلال كتبه التي يرسلها مشكوراً إلى صندوق بريدي كإهداءات أسعدتني تباعاً؛ فمنذ ذلك التاريخ الذي لم يكمل عاماً كاملاً وصلتني منه ثلاثة إصدارات جديدة غير الذي سبق أن تحدثتُ عنه (!) وآخر الإصدارات الثلاثة مجموعة قصصية عنوانها (هل كان قلبي معي؟) صادرة عن دار أزمنة أيضاً، في طبعتها الأولى المؤرخة 2014 استباقاً!
وكما فعلتُ سابقاً سأقصر كلامي على ما يعجبني فقط، وقد أعجبتني في المجموعة قصة عنوانها (لستَ أنت) جاءت على شكل رسالة من قارئ محب للشعر إلى شاعر مشهور ورئيس تحرير مجلة أدبية، وكانت الرسالة في نصفها الأول متخمة بعبارات التضخيم والتفخيم للشاعر: (قرأتُ قصيدتك يا سيّدي وشاهدتُ صورتك التي جعلت بجانب قصيدتك فهالني ذلك التمازج والتماهي الذي جمع صورتك بنصك الشعري، فنصٌّ شعريٌّ بديعٌ وصورةٌ كأنها قصيدة تماثل النص الشعريّ إن لم أقل تكمله..)
ويتمادى القارئ المعجب في عبارات المديح التي يغدق بها على الشاعر: (استللتُ صفحة قصيدتك من قلب المجلة، هكذا أفعل مع النصوص نادرة الجمال، أجمعها في إضبارة ترافقني في تنقلاتي، وبعد أن استللتها أخذت أنظر إلى صورتك أستاذي الشاعر، تأملتك فلاحظتُ التماعة في عينيك وبريقهما كأنهما شمس الربيع الخجولة تنثر دفئها على أكمام الورود فتنضجها، ثم ابتسامتك المنتفخة من جانبيْ فمك الصغير والتي لا يمكن أن تكون إلا زهرة ربيع صغيرة أفاقت للتو فملأت الكون عذوبة وبهاءً..)
ويتمادى أكثر فأكثر، حتى حين يصل منتصف الرسالة تتحول المعاني: (.. لكنّ ما أزعجني وأقضّ انسجامي هو تلك الرائحة الغريبة التي رصدتها متسللة بين ثنايا زهور قصيدتك، كنت أدني ورقة القصيدة من أنفي مع كل مرة أتهم فيها نفسي بالتوهم، لكنني أجد رائحة ما تتسلل خفية بين زهور قصيدتك. في بداية الأمر لم أعر هذه الرائحة اهتماماً، قلت لنفسي: ربما تكون زهرة ميتة عفنة مثلاً أذاعت هذه الرائحة المنكرة. لكن الرائحة يتزايد ضوعها وتمكنها، فبدأت تطغى على الروائح الزكية التي تفوح من ثنايا زهور قصيدتك. حيرني أمر هذه الرائحة العفنة، توقفت أدير مع نفسي سؤالاً تلو السؤال محاولاً الوقوع على السبب المجهول لظهور الرائحة العفنة..)
ويقرر أخيراً: (وحين أدنيت صورتك من أنفي تعكر وجهي وغامت عيناي، كانت رائحة عفنة تفوح من صدر الصورة..)!
هذه القصة الرمزية ذكّرتني بقصة واقعية عشتها قبل بضع سنوات، في أحد المهرجانات الشعرية القليلة التي حضرتها - لأنني عادة ما أعتذر عن حضور المهرجانات لأسباب مماثلة! - فقد كان وقت تناول العشاء في مطعم الفندق، وأصرّ عليّ أحد الأصدقاء أن أجلس إلى جانبه نتعشى على طاولة يلتف حولها عدد من الشعراء المحليين والعرب الكبار. كان أحدهم هو الأكثر شهرة بيننا، وكان قد فرغ للتو من تناول وجبة طعامه، فرمى بقايا كيس الشاي وسط طبق الأرز واللحم، وأغرق أعقاب سجائره في وسط الشوربة، وراح يسعل ويرمي بالمناديل على السلطة والملاعق والأكواب بطريقة كدتُ أن أتقيأ من مشاهدتها..
غادرتُ الطاولة تاركاً وجبة طعامي كما هي، وخرجتُ من المكان لأتنفس هواءً نظيفاً؛ وحين جاء موعد الأمسية الشعرية التي شارك فيها ذلك الشاعر العربيّ المشهور، أقسم بربّي أن الحضور كان يضجّ بالتصفيق لطريقة إلقائه وحركاته البهلوانية، بينما كنتُ أكاد أختنق من الرائحة الكريهة التي ظهرت لي وأنا أنظر إليه، فغادرتُ قاعة الأمسية..!
ختاماً أقولُ للمبدع عبد الكريم النملة: شكراً لهذه الإصدارات المتوالية، وأرجو أن تستمر في تنوّعك الأدبيّ النازف من ناحية الحزن الخلاّق؛ ولا تستمع لمن سيستنكرون عليك غزارة الإنتاج. لا تدعهم يصيبونك بالإحباط والتراخي والعزوف عن التجريب وطرح ما لديك من جديد تلو الجديد، كما أصابوا غيرك ممن توقفوا من بعد خطواتٍ واثبة وسكتوا من بعد خفقاتٍ صاخبة..!
- الرياض ffnff69@hotmail.com