تغيرت الأحوال في الحقبة الرومانسية مع نهاية القرن الثامن عشر؛ إذ تحولت أفكارها من النموذج الأوربي (الإغريقي - الروماني) إلى النموذج الهندي؛ فقد رأى هيردر، أبرز روادها، أن التاريخ البشري يشتمل ويؤالف بين أمم وتراثات كانت تعيش كوحدات كلية، وتمثل كيانات عضوية لها حياتها وروحها الخاصة. ويرى أيضاً أن المنتجات الثقافية والنوازع الدينية لهذه الكيانات لا يمكن تقويمها إلا من داخل كل تراث حي؛ والجدير بالذكر أن التشبيهات المجازية للنمو والتطور العضوي تعبر عن نموذج تفكيره. وقد استطاع بفضل هذه التشبيهات المجازية أن يثبت الروابط الحية الوثيقة بين أوربا والهند. وبالرغم من أن هيردر لم يراوده الشك أبداً بشأن تميز المسيحية على الهند والشرق، لكن حبه لفهم الفلسفة الهندية، وخصوصاً تقمصه للشعر في الكلاسيكيات الهندية القديمة، كان الدافع لدى جيل كامل من معاصريه؛ فكانت قد نشأت بذلك الفكرة القائلة «إن الهند تمثل طفولة البشرية»، وهي الفكرة التي أسهمت كثيراً في صوغ النزعة البدائية الرومانسية، والتي أصبحت بدورها فيما بعد سلاحاً قوياً في نقد الثقافة المعاصرة.
وقد ارتبطت هذه الصورة بمسألة أولوية الكتاب المقدس؛ فهو لم يهدف إلى مهاجمة الرؤية الأصولية، ولكن إقراره بعصر الحضارات العظيم في الشرق، وإيمانه بأن الأمم الأوربية انبثقت من آسيا، أدى بالقطع إلى وضع علامات استفهام بشأن الإيمان، بأن سفر التكوين في العهد القديم يضم الرواية القاطعة الصادقة عن التاريخ الأول للسلالة البشرية. كما اتسع نطاق تعاطفه وحبه للفكر الهندي، واستهوته كذلك الأفكار الهندية عن وحدة الوجود وعن الروح العالمي (آتمان).
وفي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت صراعات الأفكار على أشدها؛ حيث كانت أفكار كارل ماركس تتصارع مع أفكار الرأسماليين وتطبيقاتهم. فقامت دولة كبيرة على تلك النظرية، ونشأت بعد الحرب العالمية الثانية منظومة سياسية كبيرة؛ أصبحت تعرف بالكتلة الاشتراكية (أو المعسكر الشرقي). لكن الغلبة كانت في أواخر القرن العشرين للنظرية الرأسمالية (أو المعسكر الغربي)؛ حيث نتج عن ذلك الانتصار انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الكتلة الشرقية.
أما آخر التيارات الفكرية، فكانت ناتجة عن تفوق الفكر الغربي، وسيادته بوصفه التيار الأوحد؛ وسميت هذه الطفرة الفكرية «العولمة». وكان بعض المنظرين لسيادة النظام السياسي الغربي مثل فوكوياما، الذي تنبأ بنهاية التاريخ، قد هللوا للانتصار النهائي لأفكار الغرب عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. بينما خالفهم آخرون بالتكهن باستمرار الصراع بين الطوائف الفكرية في المجتمعات البشرية، مثل صموئيل هنتنجتون، الذي كان يحذر من التهوين من الاختلافات الجذرية بين فئات البشر، وأفكارهم المقولبة، التي جبلوا عليها، ومحاولة فرضها على المجتمعات الأخرى، أو الدفاع عنها على أقل تقدير.
وقد أسهم في هذا الشأن مؤسس الدراسات اللغوية الحديثة همبولت في تأكيده على أهمية اللغات الإنسانية بوصفها مرايا تعكس خصائص عقليات الأمم؛ وهي العلاقة التي جعلت العلم الحديث ينظر إلى الفكر بأنه من نتاج اللغة. فالفكر يتصور العالم بوصفه موجوداً، وكل شيء موجود، فهو سيظهر على أنه لوغوس، وواقعي يمكن التعبير عنه.
علماً بأن عالم الموضوعات، التي يعرفها العلم، ومنها يستمد موضوعيته الخاصة، هو عالم من النسبيات، التي تحيط بها علاقة اللغة بالعالم؛ وفيه يكتسب مفهوم «الوجود - في - ذاته» سمة تحديد الإرادة. حيث ينفصل تخيل العنصر الوجودي عن ثبات ماديته أو واقعيته؛ وهنا تصبح علاقة الإرادة البشرية بكل من الواقع والتخيل مزدوجة، فيكون التبادل مدعاة لحدوث الوهم، والتورية بأحدهما سبيلاً إلى خوض المعارك الفكرية، التي يكون هدفها الرئيس الحصول على سلطة المعرفة، والاستحواذ على عناصر القوة.
- الرياض