الدّعوة الثقافية الجديدة التي حظي بها الكيان الصّهيوني، كانت في المكسيك، وذلك حينما حلّت (إسرائيل) كضيف شرف على معرض (غواد الاخارا للكتاب الدّولي)، الذي تمّ افتتاحه في الثلاثين من شهر كانون أوّل الماضي!! كانت تلك الدعوة خارجة عن المألوف، إذ كيف يحصل هذا الكيان المجرم بعد كلّ تلك المجازر التي ارتكبها بحقّ الشعب الفلسطيني والأمّة العربية على هذا التّكريم؟.. لقد دفعت تلك الدّعوة بعدد كبير من كتّاب المكسيك، وكتّاب أمريكا اللاتينية البارزين لتوقيع بيان استنكار ضدّ الدّعوة، ومما جاء فيه: «إنّ قيام دولة إسرائيل تسبّب في نكبة الشّعب الفلسطيني، وحكم عليه بالمنفى والقهر والسّلب.
إنّ 64 عاماً من الاحتلال العسكري الإسرائيلي أجبرت العرب واليهود على العيش في حالة حرب دائمة، هذا وبعد أن تعايشا في حالة سلم حتى أوائل القرن الماضي.. لقد تمّ القضاء على التعايش العربي اليهودي، من خلال إنشاء دولة تقوم على الإقصاء العِرقي والثقافي، والتي تنفي حقّ الشّعب الفلسطيني المشروع في إقامة دولته والعيش في أرضه».
منذ بداية المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، حرصت الصهيونية على اصطياد المثقّفين البارزين في العالم، وذلك من أجل تجميل الأكذوبة، فهي أي (إسرائيل) أدركت أهميّة وجود أداة أخرى لتثبيت كيانها الباطل، هذا بالإضافة إلى الحروب المدمِّرة التي تشنّها على العرب.. أمّا هذه الأداة فتتمثّل بحقل الثقافة.
في وقت مبكّر نسبياً يقدّم الشاعر الإنجليزي الكبير (اللورد بايرون) تصوّره الخاص في حلّ ما سُمّي في حينه (بالمشكلة اليهوديّة) في أوروبا. يكتب (اللورد بايرون) قصيدة يقول فيها: «الكلب له بيت، العصفور له بيت، الحصان له بيت، أين بيت اليهودي»؟ ثمّ يضيف: «بيت اليهودي في فلسطين، ولا بدّ له من أن يعود إليه»*.
الروائي (جيمس جويس) هو الآخر يطرح من خلال روايته الشهيرة (عوليس) تشوّقات الإنسان اليهودي ممثّلاً ببطل الرواية (بلوم) بالعودة إلى ما يسمّى بأرض الميعاد، وذلك بعد أن يقف أمام (طبريا)، ويشاهد سهول حيفا وبيارات يافا وبرتقالها الذي يلمع كالذهب.. لقد تحدّث عن فلسطين باعتبارها إرثاً توراتيّاً قديماً ما زال ينتظر وصول القادم اليهودي الذي ظلّ يتدحرج طوال حياته من أسر إلى أسر! بعبارة أخرى لقد أراد (جويس) أن يؤكّد من خلال روايته على المقولة التي روّجت لها الصهيونية بشأن فلسطين: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
الكاتب المعروف (بورخيس) لم يقف عند حدود التعاطف مع الأفكار الصهيونية كما حدث مع الكاتبين السابقين، ولكنّه اتّخذ موقفاً واضحاً وصريحاً إلى جانب العدوّ الصهيوني ضدّ الأمّة العربية. يقول بورخيس في مذكّراته: «في بدايات 1969 أمضيت عشرة أيّام جميلة في تل أبيب والقدس بدعوة من الحكومة الإسرائيلية. عدت إلى بلدي بشعور أنّني زرت أقدم وفي الوقت نفسه أحدث البلاد. عدت من بلد شديد الحيوية وفي ركن من العالم كان نصف نائم». يضيف بورخيس: «أثناء الحرب العربية الإسرائيلية أخذت موقفاً في الحال، وعندما كان فصل القوّات غير مؤكّد كتبت قصيدة عن الصراع. بعد أسبوع كتبت قصيدة عن النّصر». طبعاً لن يأخذنا العجب إزاء هذا الخلل الكبير في موقف بورخيس حين نعرف أنّه انخرط في آخر سنوات حياته في تجربة التّصوّف اليهودية، وهي الطريقة المعروفة (بالقبالة)، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع المغنية (مادونا).
من جهة أخرى ثمّة جائزة (ثقافية) يمنحها الكيان الصهيوني للكتّاب في العالم، وهذه الجائزة هي (جائزة أورشاليم). وهي عبارة عن رشوة مالية وسياحية يقدّمها الكيان لمن يتمّ اصطيادهم من الكتّاب اللامعين في العالم، كما أنها بمثابة بوابة لولوجهم إلى جائزة نوبل العالمية.. وقد تمّ إعطاؤها إلى عدد من المبدعين الكبار في العالم، ومنهم: ميلان كونديرا، بورخيس، ماريا بارغاس يوسّا، هوراكي موراكامي، وأنطونيو مونوز مولينا الذي أخذها العام الماضي.
هذه المواقف على صعيد تبنّي وجهة النّظر الصهيونية من قِبَل بعض الكتّاب المعروفين يقابلها مواقف مؤيّدة للحقوق العربية من جانب عدد من الكتّاب والمثقّفين الكبار في العالم أمثال (جان جينيه)، و(روجيه غارودي)، و(غابرييل غارسيا ماركيز)، ووفد الكتّاب العالمي الذي زار مدينة رام الله إبّان الانتفاضة الثانية وضمّ كلاً من (ساراماغو وأنطوان غالا وول سوينكا)، الذين أعلنوا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وقاموا بفضح الممارسات الوحشية الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
والآن، ما الذي يقود إلى مثل هذه المواقف المتناقضة عند جمهرة المبدعين، في قضية كالقضية الفلسطينية باتت تشكّل البؤرة الأكثر إضاءةً على صعيد الألم وغياب العدالة في التاريخ المعاصر؟ هل يمكن أن يكون للدعاية الصهيونية أثر على هذه المواقف؟ وبالمقابل هل يمكن أن يكون للتراخي العربي الإعلامي والسّياسي على الساحة الدولية دور في حياد أو فقدان الصوت الثقافي الداعم والمؤازر؟
مما لا شكّ فيه أنّ هناك تقصيراً فادحاً من طرف المؤسسة الثقافية العربية، بشقّيها الرسمي والشعبي، في مسألة الوصول إلى مثقّفي العالم من أجل إيضاح الصورة أمامهم، ومساعدتهم في تشكيل موقف حقيقي وواع من القضية الفلسطينية.. فوزارات الثقافة العربية مثلها مثل اتّحادات وروابط الكتّاب العربية هي محض مؤسسات بيروقراطية، لا علاقة لها من قريب أو بعيد في صناعة الثقافة العربية وربطها في نسيج الثقافة العالمية.. وإذا لم يكن هذا الكلام صحيحاً فاذكروا لي سلسلة أدبية أو أيّة مجلات ثقافية عربية تصدر باللغات الحية ويتمّ توزيعها في أوروبا وأمريكا وغيرهما؟ هناك جهد فردي لكتّاب معدودين، وهذا غير كاف.. في الوقت نفسه هناك آلة إعلامية صهيونية تقوم بجهود جبّارة في سبيل تشويه الحقائق وقلبها بما يتناسب وروح الأكذوبة.. غير أنّ هذه الأسباب جميعها ليست سوى عوامل ثانوية، في الموقف الذي يمكن أن يتّخذه هذا الكاتب أو ذاك بالنسبة للقضية الفلسطينية، خاصّةً إذا كان الكاتب ذا وزن على صعيد ما ينتجه وما تُحدِثه كتابته في الحراك الثقافي العالمي. هنا لا بدّ للكاتب الحقيقي أن يشكّل موقفه النهائي بناءً على ثقافته الشاملة، وحساسيته العالية التي تتفرس جوهر الوجود البشري على الأرض.
في الأجواء الطبيعية ينبغي أن تذوب المسافة بين إبداع الكاتب وبين مجمل مواقفه في الحياة.. وإذا وجدت مثل هذه المسافة فإنّ وجودها يؤشّر إلى عطب كبير وأساسي يعاني منه إبداعه، إذ كيف يمكن لشاعر أو روائي مثلاً أن يمجّد الحرية في أعماله وفي الوقت نفسه يؤيّد القتل الذي تقوم به عصابات القتلة والمجرمين؟ كيف له أن يحتفل بالطبيعة ثمّ في لحظة تالية يشيد بمن يقتلعون الأشجار ويعدمون البيوت؟؟ وفي الحالة الفلسطينية التي هي باروميتر الوجدان العالمي كيف يمكن أن يكون الفنّان عاشق الجمال والفتنة، منسجماً مع كلّ هذا القتل والخراب الذي تصنعه آلة الحرب الصهيونية؟!
لا ينتمي المبدع لبلد بعينها، قدر انتمائه لوطنه الكبير الذي هو هذه المرة الكوكب الواسع العظيم.. ولذلك فإنّ أي ظلم يقع في أي مكان من هذا الكوكب هو ظلم يعنيه شخصيّاً.. إنّه وقد حلّت فيه روح الحب والجمال، يمشي رافعاً راية الحرية وقاطعاً السهوب والمنحدرات ليعانق أوطانه الكثيرة.
** ** **
* هناك قصّة للفتيان كتبها القاص السّوري المتميّز زكريا تامر، بعنوان البيت، وفيها استفادة من قصيدة بايرون الواردة أعلاه، ولكن بشكل معاكس، بحيث تؤكّد على حقّ الشعب الفلسطيني في وطنه.