(أ)
تُدار اليوم في المنطقة، وعليها، مفاوضات ذات اتجاهين، أحدهما: إعادة توزيع المصالح المتعارضة، والآخر متورط بالاستفادة من اضطرابات الخريطة الجغرافية السياسية، تحت تأثيرات الربيع العربي الضليل، وكأن كلا الاتجاهين تبعات (سياسات الفوضى) الواقعة في المنطقة منذ احتلال العراق وإعادة تدويره، والآراء المتداولة سياسياً في الخليج تكاد تشكّل خطاباً لا يميل إلى التفاوضية للاستفادة من اضطرابات الواقع إلى مصالح ومكاسب، بل تغلبه الاصطفافية التعبوية على استسلامها للعموميات واتقائها من التفاصيل. ويأتي عدم تفعيل التفاوض تأثراً بمفهوم يخلط بين التفاوض والتخاذل، باعتبار المشاركة اعتداء على الأحادية الغالبة على الخطابات السياسية والدينية. والأصل أن مفهوم التفاوض بما يتضمن من: مساواة في المبادلة التنازلية ومشاركة في التسوية هو ضمانة وجود، منافعه أكثر من مضاره. فأي الخيارات السياسية يتوجب على دول الخليج التقاطها ودراستها جيداً في مواجهة تغييرات الواقع (وأنسنته بدلاً من شيطنته)، فليس من المتوقع أن تخرج تسويات تحافظ على مصالح أطراف غائبة عنها، بينما تتسارع الجهود الإيرانية في حكومة روحاني إلى تفاوضات عدة، وهو اعتراف إيراني بفشل سياساتها التصادمية الأحادية التي أدخلتها في واقع مشيطن ومخنوق أثر في مصالحها الداخلية والإقليمية، والدلالة الكبرى: (إيران تريد أنسنة الواقع بمفاوضات مع خصومها). والظاهر في القطاف الأول أن إيران كسبت تنازلاً أمريكياً بالموافقة على برنامجها النووي مشروطاً بقيود على نسب تخصيب اليورانيوم ومراقبة سلمية استخدامه، وتخفيف العقوبات الاقتصادية، ورفع الحجر عن مبيعاتها النفطية. ولأن المبادلة التنازلية روح التفاوض فإن إيران بادلت تنازلاً بآخر، فماذا قدم الإيرانيون؟ فالموافقة على الضبط النووي ومراقبته ليس تنازلاً يساوي ما قدمه الأمريكيون؛ فما هو الجانب الإيراني من المبادلة؟ ولماذا بقي سرياً؟ أليس هذا الإخفاء يدل على أن التنازل ليس في مسألة داخلية، بل يدور حول أوراق إيران الخارجية، التي حان قطافها أضحية للتسوية في شكلها المبدئي؟
والأوراق الإيرانية منذ احتلال العراق في حالة توسع في المنطقة، وذات أبعاد أمنية واضطرابية، في (العراق، البحرين، سوريا، لبنان، اليمن، الخليج..)، فعلى أي منها وقعت المبادلة؟ ونحن إذ نرصد - ما هو معلن - نأي دول الخليج عن التفاوضات الإيرانية - الأمريكية برغم ما قيل عن تداولها السري في عمان منذ مطلع العام، فإننا لا نتوقع أن المسألة البحرينية أو اليمنية أو الأمنية الخليجية كانت جزءاً من المبادلة التنازلية؛ لذا تبقى أوراق (المليشيات المسلحة في العراق، والبعث في سوريا، وحزب الله في لبنان)، فعلى أيهم كانت الأضحية الإيرانية الأولى؟
ما هي مصالح إيران؟ ما هي مصالح السعودية؟ أين يقع التعارض؟ وأين يمكن التفاوض؟ ما هي أوراق فئة (أ)، ما هي أوراق فئة (ب)؟ هذه المعطيات يتوجب تحضيرها إن كنا نمضي باتجاه المفاوضات أو بمواجهة آثار التسوية النهائية التي لم يحن أوانها، حماية لمصالحنا الداخلية والخارجية. فالمسألة أننا نواجه محاولات لإعادة ترسيم المنطقة منذ احتلال العراق، فليس صعباً الاستدلال بأن بدايات القطاف كانت لمصلحة الإيرانيين رغم الأكلاف الأمنية والاقتصادية التي تحملتها دول الخليج أثناء الحربين الأمريكية - العراقية، ومنذ ذلك والتدخلات الإيرانية في توسُّع في دول المنطقة التي تربطها مصالح مشتركة مع السعودية. من هنا فإن مفهوم التفاوض يوجب على السعودية قراءة أوراق الإيرانيين وفرزها بين مصالح حقيقية وأخرى مجرد أوراق ضغط لحماية المصالح، وعلى إيران أن ترى مصالح السعودية في المنطقة العربية كلها، بوصفها الدولة الأكبر وزناً، التي يقع على عاتقها مسؤولية المصالح العربية المشتركة، بعد غياب الثقل العربي المكمل: (العراق، مصر، سوريا).
(ب)
ما هو التفاوض؟ (الحلول) هي الفضاء العام للمصطلح، والحل مرتبط بفك متعارضات ومتشابكات، وإذا لم تفك هذه المتشابكات فإن الصراع أو النزاع يستمر، وهو ما يجعلها مسألة تحتاج إلى إصرار، وصبر، ووقت، وإدراك لطبيعة التفاوض كونها شراكة ومبادلة؛ فالمفاوضة في اللغة: (المساواة، والمشاركة). وذكر (ابن منظور في اللسان) ما يقتضي المبادلة في قصة دغفل بن حنظلة؛ إذ قال لمعاوية ردًّا على معنى «مفاوضة العلماء»: آخذ ما عندهم وأعطيهم ما عندي. فالدلالة الأم في اللغة جذر صلب في الدلالة الواقعية التي يحملها التفاوض. فالتفاوض ليس جدلاً، بل اتفاقاً ومشاركة؛ فالجدل محله الصراع.
ليست المفاوضات شرًّا، أو أنها ذات طبيعة تضر بالمتفاوضين كما هي طبيعتَيْ الصراع والنزاع، بل وسيلة لتسوية الواقع من الشيطنة/ الصراع إلى الأنسنة والتعايش والتفاوض. ولأن روح المفاوضات هي المبادلة التنازلية فإنها لا تروق لأكثريات الفرقاء، خاصة أنهم ليسوا مسؤولين مباشرة عن فض النزاع أو حل الصراع؛ ما يعرض الأقلية السياسية إلى انتقادات الأكثريات الرافضة للتفاوض، تحت خضوعها لأحادية تميل إلى مفهوم الحسم عبر وسائل إقصائية، وهو ما يتعذر حدوثه كحل لجميع الأزمات، فكيف الخاضعة منها لتوازن في القوى. هكذا يمكن أن نرى التفاوض عاماً: شراكة بعد خصومة، يتفق عليها بعد تسوية الاشتباكات والتعارضات التي حالت دون التقارب، أما دلالته السياسية فهي واقعة في إيجاد حلول ترضي الأطراف بالتقارب التشاركي في المصالح بديلاً عن الابتعاد الذي يدعم استمرار حالات التعارض. فأين العقلية العربية من التفاوض على مستوى تأسيس الكيان، أو علاقاته ومصالحه الخارجية؟ ولماذا تميل إلى منطق الحسم: (الهزيمة أو النصر؟).
إن العقلية التي لم تدرب على حالة (اللا-هزيمة واللا-نصر)، العقلية الأحادية التي لا تريد المشاركة مع الآخر داخلياً أو خارجياً، تجعل مفهوم التفاوض كحالة تشاركية حالة مرفوضة، فكيف إذا كانت خاضعة لأكثريات اجتماعية مخلقة بتجييش ديني يحرض على الأحادية، وكل تجييش يقوم على رفض التنازل والمشاركة. فهذه العقلية الأحادية الرافضة للتشارك والمساواة لا تحسن إدارة التفاوض وإدراك منافعه، ومدى ضرورته في تأسيس الدولة الحديثة، وهي مسؤولة عن إطالة الصراعات والنزاعات في أي دولة تأسست على روابط الدم والتاريخ وأكثرياتها الاجتماعية، ولم تؤسس على مبدأ المصالح المشتركة بين مكوناتها، فالأحادية تنتج الصراعات والنزاعات، والتفاوضية هي الحالة التشاركية والمساواتية بين مكونات الدولة، وبينها وبين علاقاتها الخارجية؛ ولهذا نلاحظ على العربي في الشام، أو العربي في المغرب، أو العربي في الخليج امتعاضه من التفاوض، واعتباره تفريطاً، تأثراً بما صوره التعليم والإعلام الأحاديين أنه شر وتهاون عبر محطات عديدة من التاريخ الحديث، إن كانت مفاوضات الحبيب بورقيبة مع الفرنسيين التي أفضت إلى استقلال تونس، وليس انتهاء بشيطنة الرئيس الراحل أنور السادات في مفاوضاته مع الإسرائيليين، أو مفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو.
ولا نريد أن يفهم من هذا التصدير أن الشروع بالتفاوض يحقق أفضل التسويات، فتلك مسألة مرهونة بحسن إدارة الأوراق الرابحة والخاسرة، وجودة تقويم التنازلات المتبادلة؛ إذ لا تقدم تنازلاً بوزن (أ) إلا إذا قابلته بتنازل بوزن (أ) وليس أقل منه، ولا تقدم تنازلاً بوزن (ب) إلا بمقابلة تنازل (ب) أو أكثر وليس أقل، وهكذا، وهي إدارة قائمة على مفاهيم التفاوض المساواتي في المبادلة التنازلية، والتشاركي في إيجاد التسوية والالتزام بها؛ فما هي العوامل التي يمكن أن تساهم في نجاح التفاوض؟
(ج)
يأتي (عامل الإدراك: معرفة تفاصيل الواقع وتحولاته المستقبلية) على رأس العوامل الفاعلة في إدارة المفاوضات؛ ويقتضي هذا الإدراك اعترافاً بعجز الوسائل الأحادية غير التفاوضية وفشل الحلول المسلحة بتغيير الواقع المأزوم، وهو إدراك يعزر نفسية المفاوضين لابتكار الحلول. كما أن هذا الإدراك يتطلب الإقرار الضمني باستحالة تحقيق جميع المطالب التي كانت سبباً في التعارض؛ ولذلك يفشل التفاوض إذا دخلها الفرقاء بالعقلية الأحادية عينها التي تسببت في الأزمة، فمبدأ المبادلة التنازلية يفضي إلى معالجة المطالب والمصالح المتعارضة، وهو تنازل لا يكون أحادياً وإلا فشلت التفاوضات، فمجرد قبول خصمك التفاوض معك فإن تنازلاً سوف يقدمه مقابل تنازلاً سوف يحصل عليه.
كما أن (عامل المرونة الواقعية)، أي عدم الاشتراطات الإقصائية التي لا تعيق التفاوض قبل أن يبدأ، هو عامل يقتضي مبادلة الاعتراف بمصالح الفرقاء؛ وبالتالي ينهي حالة الإقصاء والتعارض، فمجرد قبول التفاوض دون شروط مسبقة دلالة تنازل إيجابية، وهو امتحان لجدية المفاوضين، فأي شرط إقصائي هو استمرار لتوهم الغلبة والخسران، فأي فرض للشروط يكون بين قوة تتفوق على قوة؛ ما يعني عدم الحاجة فعلياً إلى تفاوض، بل (استسلام) على أساس رحمة القوي بإبقاء بعض حياة للضعيف المهزوم، فهي طاولة منتصر ومهزوم، وليست طاولة تفاوض تسعى إلى تسوية قائمة على شراكة ومساواة، ولا تتعارض مع (مفهوم الرضا)، الذي يضخ الحياة في أي تفاوض يراد من تسويته أنسنة الواقع.