إذا أردنا الكتابة عن النساء في واقعهنّ لا في أحلامهنّ، فعلينا أن نطرح جانب أقراط الذهب وخواتم الماس!
لا أطالبكم بالتوجّه نحو المخيّمات، والعشوائيّات، إذا صعب الأمر عليكم، لكن لنتوجّه، على أقلّ تقدير، نحو حارات الطبقة الوسطى، أو ما أُطلق عليه في يوم ما، البورجوازيّة الصغيرة، والتي تمنح المجتمعات حيويّتها، عبر تحوّل عناصرها إلى طبقة عليا ودنيا، مثلما تتحوّل عناصر الطبقتين الأخريين، نتيجة الحراك الاجتماعيّ- الاقتصاديّ إليها.
لا يحدّ أحلام النساء في هذا العالم حدّ، ليس لأنّ أحلامهنّ ترفة، لكنّها كثيرة، ومتنوّعة، وفحواها تحسين حياتهنّ وحياة من حولهنّ.
في لقاء لي، حدث منذ أيّام، مع Spivak، واحدة من أهمّ المنظّرات الشرسات للنسويّة في مجتمعات ما بعد الاستعمار، أكّدت لي أنّ معظم الذين يكتبون عن النسويّة، أو برؤية نسويّة، يضيفون إلى هذا العالم المزيد من المشكلات، بدلاً من حلّ المشكلات الموجودة أصلاً. فحينما تغدو الرؤية النسويّة في الكتابة، تعصّباً وأنانيّة تضيف إلى وضع النساء المزيد من التعقيدات، لكن حينما تنفتح على الآخر، وتحكي واقع المرأة القائم على العطاء أصلاً، فإنّها تغدو مدخلاً إلى الديمقراطيّة، إذن، أحبّي جنسك، وأحبّي اسمك، وأحبّي ذاتك، ولا تنسي الآخرين من هذا الحبّ!
تعرض لنا الروائيّة المصريّة (رباب كسّاب) في روايتها «فستان فرح»، الصادرة عام 2012، في دار الكتاب العربيّ في بيروت، نماذج لنساء مختلفات، لكن لا يبتعدن كثيراً عن القطب الذي تدور النساء حوله، وهو كيف أمنح ذاتي ما تستحقّ، وأمنح الآخرين في الوقت ذاته؟ وفي تعبير أكثر شيوعاً: كيف أحقّق ذاتي، وأقوم بواجباتي تجاه الآخرين في آن معاً؟ وبصيغة ثالثة: كيف أوفّق بين حقوقي التي أعيها، ولا يعيها المجتمع في كثير من الأحيان، وكيف أقوم بواجباتي؟
لقد فكّرت كلّ واحدة من نساء «فستان فرح» بهذه القضيّة الإشكاليّة، ووجدت مخرجاً ما على طريقتها، لكنّهنّ جميعاً اتفقن على أنّ الحلّ الجذريّ يكون في الثورة، لا في ثورة النساء، بل بالثورة الشاملة التي تمثّلت في 25 يناير في ميدان التحرير، والتي شكّلت حالة يوتوبيّة، مؤقّتة طبعاً، وبذلك يشير النصّ في أحد مستوياته إلى أنّ الخلاص جماعيّ، لا فردياً ولا إثنياًّ، ولا دينياًّ، ولا جندرياًّ.
يمكن القول إنّ نصّ «فستان فرح» من أوائل النصوص الروائيّة التي تشكّل ثورة 25 يناير المصريّة فضاءها النصيّ، وتنتمي عناصر هذه البنية الاجتماعيّة إلى الطبقتين المتوسّطة والفقيرة، أي إلى البورجوازيّة الصغيرة والبروليتاريا، ويحرص النصّ على التنوّع المدهش للشخصيّات، بحيث تغطي طيفاً واسعاً من هذا الانتماء، والذي يقابله تمثيل واسع للطيف الثقافيّ للمجتمع المصري، عن طريق حضور سكان حيّ من الأحياء المصريّة المتوسّطة إلى الفقيرة، وعلاقات بعضهم مع بعضهم الآخر من جهة، وامتدادات هذه العلاقات إلى خارج الحيّ من جهة أخرى.إذ نجد مسلمين وأقباطاً، ومثقفين وذوي ثقافة بسيطة، ومتعلمين وأميّين، ومدرّسين، وأساتذة جامعات، وأطبّاء، وبائعين وبائعات، وأطفالاً، وأسوياء عقليّاً وهبلاً، وعناصر من الحزب الوطني (السلطة)، وعناصر من الجمعية الوطنية للتغيير (المعارضة)، وأفراداً من الجيش ومدنيّين، وأضداداً للنظام، وأذرعاً للنظام (حسين)، ومدرسات يذهبن في إعارة لبلد خليجيّ، وعالماً واقعياً وآخر افتراضياً، وأسوياء جنسيّاً وشواذ، ومرتبطين ومطلّقين، ومخلصين وخونة...
تمتلك تلك العناصر جميعها قضايا فرديّة، تتجلّى في السرد، وتجد لها حلاًّ مؤقّتاً، وجلاء في النهاية المفرحة، وقبل ذلك تذوب الإشكاليّات الصغرى في الإشكاليّة الكبرى، التي تتعطّل في يوتوبيا الثورة، وتصبح أقرب إلى المشكلة التي تجد لها موقفاً تتوقّف عنده، ويبدو مثل حلّ دائم، وفاقاً لرؤية المبدعة، ويتجسّد هذا الحلّ في ميدان التحرير، فها هي رضوى تقول لعايدة المهمومة: «لا حزن بعد الآن، المصريّون سيغيّرون التاريخ، وسترين.». وتنسى ميّ مشاكلها العميقة، لتنخرط في حياة الثورة، التي عرّفتها على شاب جديد من ذلك العالم، عبر الإنترنت، فدخلت معه في علاقة حبّ فرضها ذلك الواقع الثوريّ: «لم تفكّر لحظة فيما ستكون ردّة فعله حين يعلم أنّها ليست عذراء، تركها اثنان، لأنّها تجاوبت مع ما أظهراه لها من مشاعر، فما بال الجديد حين يعلم أنّها أقامت علاقة كاملة مع رجل آخر، مهلاً، وامرأة أيضاً؟!».
يمتاز النصّ بنضج نموذج المرأة، ولا نقصد نضج الشخصيّات النسائيّة، بل نقصد القدرة على النمذجة، ويعني ذلك أن تتكاثف في كلّ شخصيّة نسائيّة خصائص النموذج، وهذا النموذج ليس ثقافيّاً (جندريّاً) فحسب، بل هو ثقافيّ عام، فالمرأة حالة بشريّة إنسانيّة تعيش في محيطها الطبيعي، أمّاً، وأختاً، وابنة، وزوجة، وعشيقة، وعاملة، وبائعة، ومدرّسة، وربّة منزل، ثمة من يحترم أنوثتها، وثمة من لا يحترمها، وهكذا ... فـ (رضوى) مدرّسة ومترجمة، و(مي) مدرّسة، و(هند) بائعة، و(عايدة) مديرة، و(أم الشحات) صاحبة كشك، و(فاطمة) مدبّرة منزل لأسرة عُمانيّة...
تتشابه حياة النساء في عاديّتها، وفي أنها تدور حول الرجال، بقدر ما تدور حول تفاصيل الحياة الأخرى، ممّا يجعلها أقدر على قراءة واقعها ونقده، وأصلح لفكرة التشاركيّة في الحياة بعامّة، وفي القضيّة الكبرى، التي هي الثورة في ميدان التحرير، بخاصّة.
يتأتّى عبر هذا الحدّ من الامتلاك الجماليّ للراهن، الامتلاك المعرفيّ للواقع، إذ لا يمكن امتلاك الراهن من دون معرفة الواقع الذي يندرج فيه، أي من دون معرفة بالماضي والحاضر، وتصوّر المستقبل بناء عليهما.
يلفت في هذا السياق أنّ النصّ يقدّم أنوثة النساء العاديّات، لا الخارقات، وهذا ما نعايشه في واقعنا، لكنّنا قلما نجده في الكتابة، إذ غالباً ما يطرح الروائيون الأنثى الاستثنائيّة، لا الأنثى العاديّة التي يخفي الهمّ، أو الانشغال، أوالسنّ، أوالتقاليد أنوثتها، فننسى أنها أنثى، ولا نفكّر فيها، إلى أن تأتي عين روائيّ بصيرة، فتجرّدها. وهكذا تؤكّد نماذج (رباب كسّاب) الجماليّة على أنّ الأنوثة ليست في ما تتزيّن به النساء سواء أكان من الماس أم من البلاستيك، وليست الأنوثة داخل حدود الجسد فحسب، الأنوثة ليست مظهراً، وليست استثناء لبعض النساء دون غيرهنّ، الأنوثة لمن يدركها تتجاوز ذلك كلّه، إنّ الأنوثة موقف.
يحضر نموذجان جماليّان طاغيان، هما: نموذج (المعذّب)، ونموذج (التراجيديّ)، اللّذان يتحوّلان إلى نموذج (البطوليّ)، وعلى الرغم من التنوّع الهائل للشخصيّات، ومن النمذجة الفنية الرفيعة، نجد النصّ يعود في لحظة اليوتوبيا إلى التنميط، فتغدو الشخصيّات التي تقف مع الثورة خيّرة، مهما كانت أخطاؤها قبل الثورة، مثل شخصيّة (مي)، كما تغدو الشخصيّات التي تقف ضدّ الثورة شريرة، مهما كانت إيجابيّاتها قبل الثورة، مثل زوج (عايدة) أو ابنها، فالثورة ميزان ومطهر في الوقت ذاته، وهذا ما يبديه حوار عايدة الثوريّة مع زوجها:
«-ألا تحسّ انتصارنا؟ ألست فرحاً مثلنا؟ لم يبادلها الابتسام: أنا عملي يا عايدة، لا أعترف إلاّ بالنتائج، بالأرقام والحسابات، وكلّ ما حدث حتّى الآن لن أفرح له إلاّ إذا لمست نتيجته بيدي.
- كيف تنتظر نتيجة فعل لم تشارك به؟ أتريد أن تحصد فقط دون أن تتعب، دون أن تبذر بذورك في الأرض، تسقيها وترعاها؟».
يقودنا ذلك التصنيف إلى القول إنّ هذا النصّ يقدّم منظومة أخلاقية صارمة، لها معايير واضحة، مثلما فعل غوركي في (الأمّ)، ومثلما فعل حنّا مينا في (المصابيح الزرق).