لم يتم تعريف الديمقراطية منذ رفعها كشعار في القرن الثامن عشر، أي أنها بقيت -عن قصد - مفهوما عائما يشار إليه عند الحاجة كي يكون ذريعة للأهداف السياسية المعلنة منها أو المستترة. إذن لماذا فرضت الديمقراطية نفسها بهذه القوة، التي نشهدها، منذ بداية عصر النهضة؟ ولماذا تتعمق ويزداد ثقلها يوما بعد يوم في الصراع؟ وهي تضاهي المصطلح – وقد تفوقه أهمية – في الممارسة السياسية؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، لا بد من تسليط الضوء على المضمون، الذي طمس باحتراف طوال التاريخ :
الديمقراطية هي منهج اجتماعي-سياسي يهيئ لاشتراك المنتجين والمالكين من خلال السلطة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لممارسة فعاليات التنفيذ والتشريع والقضاء وصولا لإحلال الملكية العامة محل الخاصة واضمحلال السلطة.
عندما تشاع الملكية العامة، يصبح المجتمع كله هو السلطة، أي هو الذي يشرع وينفذ ويراقب، عند ذلك يكون المحرك الأساسي للتطور الاجتماعي ليس الصراع الاستغلالي، الذي يسخر قوة العمل والقانون والفن والفكر والمرأة والجنس والعلاقات والأخلاق والعلم، لخدمة الرأسمال وجشعه فقط، بل صراع المجتمع الانساني كله بين القديم البالي والمهترئ والجديد الواعد والمزدهر.
اذن الديمقراطية ك(مصطلح) مرتبطة ارتباطا وثيقا بالملكية العامة واضمحلال السلطة السياسية، وهي لم تتحقق حتى الآن في أي مكان في العالم، حيث إن جميع السلطات عبر التاريخ كانت ولا تزال تخدم فئة اجتماعية واحدة، أما المافيات الإرهابية في الغرب، مافيات الدعارة والجريمة المشرعة والمخدرات والسرقة العلنية وامتصاص دماء الشعوب المقهورة، فهؤلاء يجبرونك بالعصا والجزرة أن تزيف نفسك وتقول، رغما عن أنفك أنهم (ديمقراطيون) ويسلطون عليك الإعلام والفن المبتذل ورجال الدين المرتشين والقوانين الجائرة لغسيل معتقدك وإعادة تزويره، كي تتحول الى آلة تعمل ولا تفكر بل تستهلك وتموت خدمة للربح.
لقد زوروا التاريخ والجغرافيا وقسموا العالم واقتسموه، كل ذلك باسم الديمقراطية، ما هي الدكتاتورية إذن ؟ هل عند ما يطمح فرد ما لحماية بلده من هذه اللصوصية والدعارة السياسية يصبح وديكتاتورا ؟ أما من يفتح بلده لخدمة الربح الغربي فهو في قمة الديمقراطية ؟ بهذه الطريقة الرخيصة والمبتذلة تصبح ديمقراطية الأنظمة الرأسمالية هي أبشع أنواع الدكتاتورية المقنعة.
تاريخيا حاولت التجربة الاشتراكية الروسية بسط الملكية العامة بالقوة، ولكن الشرط الأول والأساسي للانتقال إلى نمط اجتماعي جديد، ألا وهو الإنتاجية الأعلى لم يتحقق .
الانتقال إلى الملكية العامة يتم الآن بالتقسيط، حيث اتخذت السلطة السياسية في الولايات المتحدة، قائدة الدول الرأسمالية وأكبرها، قرارا يقضي بتحويل 30% من أسهم البنوك إلى ملكية الدولة، أي العامة، وهذا الأمر يضع رقابة على نشاط البنوك –العصب الرئيس للرأسمال أي أن السوق الحر لم يعد حرا، وانتقل التطور الاقتصادي من العفوية إلى التحكم .
هذه الخطوة الأميركية ستتبعها خطوات مماثلة في الحلف الرأسمالي كله، وإلا سينهار بسبب الأزمات المستمرة، كما أن هذه الخطوة ستتبعها خطوات أميركية أخرى تزيد من تدخل الدولة في العملية الاقتصادية وتقليص الديمقراطية المزيفة .
هذا النوع من التحول الاقتصادي يوازي التحول الاشتراكي، أو ملكية الدولة، التي تقود بالضرورة إلى الملكية العامة، وبالإمكان تحقيقه بالتدريج وليس دفعة واحدة، كما أنه ليس حلما، إنما ضرورة لا يمكن تحاشيها، وستؤدي في النهاية لتراص المجتمعات البشرية وانصهارها في مجتمع واحد (عولمة) ليس بشروط المافيا الرأسمالية بل بشروط التطور الحضاري العام.