في القلب فسحة كبيرة للمسامحة والمجاملة والعفو عند المقدرة ولكنّ الشر يغلب في كثير من الأحيان فلا يبقي منها إلا ما ترتشفه النفس بقدرٍ بسيط حيث أن مداعبة الشيطان لمضغة الشر أمر أزلي وقد أرضعه لقلوب وعقول لا تحب أن ترى ابتسامة تعلو وجه طفل برئ فالحروب والمعارك الطاحنة إنما سببها الخصومات الفاجرة التي لاتتجاوز مسافة استقرار العقل والقلب ولا تعذر ملهوفاً أو عزيز قومٍ ذل فتورم الأنف واحمراره من شدة الغيظ يتولد منه اختزال تاريخ خصم ملئ بالسلبيات الموجعة والأخطاء تنتظر الفرصة السانحة لفتح باب الفضائح ولو من النافذة!! فالرسول عليه الصلاة والسلام حين ذكر المنافق وآيته كان منها الخصومة الفاجرة(.. وإذا خاصم فجر) والتاريخ ملئ بالخصومات الفاجرة ليس من العامة بل من علية القوم وخاصتهم وعلمائهم وإذا طرحنا هجاء الشعراء بعضهم لبعض ولغيرهم وما فيه من المثالب المعيبة والسقطات العديدة فإن فحش القول قد جاوز المدى بين من لا تتوقع أن يصدر منه القذى! فكيف أن يقدح ويعيب ويشتم ويسب! فنفطويه وابن دريد حالة من حالات العداء الشخصيه التي بلغت الخصومة حد الهجاء المقذع وهما عالمان من علماء اللغة فلم يتحمل ابن دريد أن يسخر منه نفطويه ببذاءة وبتهكم لاذع من أجل خصومة في مسألة علمية:
ابن دريد بقرة *** وفيه لؤم وشره
قد ادّعى بعلمه *** وضع كتاب الجمهره
وهو كتاب العين *** إلا إنه قد غيّره
فقابلها ابن دريد بسخرية أشد وبأكثر بذاءة :
أفٍّ على النحو وأربابه *** قد صار من أربابه نفطويه
شخص إذا يدعى بنصف اسمه *** قد استحق الصفع في أخدعيه
أحرقه الله بنصف اسمه *** وصيّر الباقي صراخاً عليه
وقد بلغت الخصومات حد القتل والتجييش وإن كان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية فهذا مثل يدخل في العشاء كما تقول العرب، وهي أمنية ليست من الحقيقة في شيء! ولم أر أحداً خولف في رأي إلا تطاير الشرر من عينيه وتجهم في وجه خصمه! ومنها الاختلافات السياسية والدينية وهذه ارتكبت من أجلها الحماقات الكثيرة بين الأديان والمذاهب وقد اضطهدت جماعات ومورست بحقها أشد أنواع التعذيب بسبب اعتقاد البعض أن الاختلاف يشكل خصومة سرمدية فاجرة لابد أن يقضي القوي على الضعيف لا أن يتعايش معه! وقد يكون الضعيف أشد حمقاً فيحاول -بما ملكت يداه وبما هداه إليه عقله القاصر - الدسائس والمؤمرات الخبيثة لأنه يعتقد أنه قلما اجتمع فحلان في ذودٍ إلا عدا أحدهما على الآخر فيوغل في الخصومة الفاجرة ويرثها جيل بعد جيل دون أن تكون له تغذية راجعة لومضات تاريخية يشوبها الكثير من الأخطاء والعبث ، وتقاذف اللوم والاتهامات يكمن فيها كذب الطرفين وسوء الطوية لإثبات الحق في الخصومة ويدعو الله سراً وعلانية بأن ينصره على خصمه وهو ظالم! والكل يبني استراتيجيته على إيديولوجيا مسبقة الدفع منذ زمن! وعلى سوء الظن بالآخر وعدم تجاوز الماضي ولو كانت خطوة إلى الوراء قليلاً! لأن صفاء النفوس هي قفزة أقوى من قفزة فليكس نحو أجيال خالية من الخصومات الفاجرة تتدرج من الشخصيات ثم الجماعات والدول! ولكن من يوطّن نفسه على ترك المكابرة البغيضة والجشع وحب السيطرة والتملك الذي استحوذ على مضغة القلب كلها بمباركة الطاغوت نفسه؟ فلم يسلم الجار الجنب من لدغات الأفاعي حين ينشب خلاف باختلاف فتبث سمومها بين الفينة والأخرى من وراء حجاب متسترة بحسن النوايا الكاذبة وبأحلام وردية أن الحق والحق أقول لا ما يعللاني به الخصوم وهو كاذب!! حتى ظن هتلر أوروبا كلها أرضاً للألمان وليس بولندا فقط ثم تبعه من ظُنّ أنه الحق الذي جاء ليخلّص الناس من ربق العبودية فكان أشد سوءة من سابقيه وافتعل الخصومات الفاجرة ليبرر استعباد الناس تحت اللواء الأحمر المرصع بالمنجل القاتل وبإلحادية مقيته كان فروعها في الشرق الأوسط يبثون أفكارها تحت مسمى ثورة العمال ويزينون للناس سوء أعمالهم! ومازلنا نواصل مسلسل الخصومات الفاجرة وكأنهم أبناء يرثون من آبائهم جينات الحقد والكراهية مع اختلاف أوطانهم وأعراقهم وطوائفهم ويجني تبعاتها أقوامٌ ليس لهم فيها ناقة ولا جمل بل أصبحت الفضائح تُزوّر وتفتعل بأكاذيب وضحة فاضحة سببها الخصومات المختزلة في قلوب أصبحت عقولها خارج الخدمة! وأصبح كثير من العقول أكثر بلادة فتصدق كل ما يكتب ويقال.