في العدد 1131 من جريدة البلاد السعودية الصادر بتاريخ 26-4-1371هـ نشرت الصحيفة قصة قصيرة للأستاذ جميل الحجيلان بعنوان: بعد المغيب، كان ذلك منذ ستين عاماً بل يزيد.. ووفق تصنيف اللجنة العلمية لموسوعة الأدب العربي السعودي الحديث (نصوص مختارة ودراسات) كانت تلك الفترة على نهاية مرحلة التأسيس ومشارف بداية مرحلة التجديد في الأدب العربي السعودي.. كانت القصة رفيعة المستوى من حيث لغتها وأسلوب السرد فيها وشدّها للقارئ وإمتاعه بترابط أحداثها وانفعاله معها وتعاطفه مع موضوعها ومضمونها.
لقد أبرزت القصة ما تنطوي عليه شخصية الكاتب من مشاعر إنسانية، ومن حس أدبي، ومن رغبة في معالجة قضايا مجتمعه، وهي تبرز أيضاً الاتزان المبكر في شخصية الحجيلان، والوعي برسالة المثقف وأين تقع عيناه وهو يقلبهما بين شرائح المجتمع وكيف يجسد رؤيته لتلامس مشاعر الآخرين.
إن أناقة العبارة في هذه القصة، والمشاعر التي شكَّلت موضوعها هو ما تنفرد به شخصية الحجيلان، أناقة في التعامل، ودأب في الاطلاع، وخصوبة في الرؤية، وتقدير صائب في الطرح، وأناة قبل اتخاذ القرار.
من هنا ومن كفاءة علمية وخبرة عملية جاءت جدارته بثقة مليكه، فمثَّله خارجياً، وتقلَّد مناصب رفيعة على المستوى الداخلي، منها وزارة الإعلام وأمانة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو منصب يشغل بإجماع دول المجلس، وتفرض طبيعة العمل به ما اكتمل في شخصية الحجيلان الأديب الأريب، ولعل إيراد هذه القصة تذكير بذائقة الحجيلان الأدبية، التي شغله العمل السياسي عن الإبحار بين مرافئها، وإبداع عقود لآلئها، ولعله بعد أن تحرر من قيود العمل عاد إلى ربيع الكلمة وأطلق قلمه ليثري الساحة الثقافية ويمدها بنتاج فكره وخبرته وعطائه أمد الله في عمره ممتعاً بالصحة والتوفيق.
***
البحر صديق الجميع.. يقصده العاشق ليبثه لواعج الشوق، ويذكره بعهد حبيب ويقصده الشاعر ليستوحي من زرقته الزاهية جمال المعاني.. ويقصده المحزون ليدفن أحزانه في أعماقه الداكنة المظلمة.. ويقصده الصياد ليبحث عن رزقه في جوفه المجهول.. ويقصده العابد ليرى في صدره المتسع المديد مظهراً من مظاهر عظمة الله.. ويقصده الخلي السعيد ليستمتع بأمسياته الهادئة الجميلة.
وأنا.. لست إلا واحداً من هؤلاء القاصدين، فكلما أدركني التعب وشعرت بالرغبة إلى أن أخلو بنفسي، ذهبت إلى شاطئ البحر لأملأ رئتي بأنفاسه الندية.. وأتأمل منظر (جدة) تطل على البحر كأنها العذراء الحالمة.
ألفت البحر وأحببت أمسياته، وأصبحت رغبتي في لقائه كل يوم، شوقاً يدفعني دفعاً ولم يكن يعنيني أمر تلك الجماعات المنتثرة على الشاطئ هنا وهناك، تتأمَّل حمرة الشمس الغاربة بلذة وسرور، بل كنت أنفرد بنفسي وأخلو إليها، لأستعرض أخطاءها وأحاسبها حساباً صادقاً مخلصاً.. وتارة أحن إلى مناجاة البحر فأتخذ من أمواجه المرحة المتدافعة صديقاً أفضي إليه بخزائن قلبي.. بآلامه وآماله.
وهكذا سارت أمسيات البحر هادئة جميلة لا يشغلني عن الاستمتاع بها شاغل إلى أن كان يوم لمحت فيه شاباً يجلس منفرداً، وقد وضع على عينيه نظارة سوداء قاتمة.. فعجبت لأمر هذا الشاب الذي بدا لي غريباً لأن الوقت أصيل.. لا شمس محرقة ولا غبار، ومنظر الشمس الذائبة في البحر بديع ساحر.. فما سر هذه النظارة الداكنة المغرقة في السواد..؟
أول شيء خطر لي هو أن الشاب خبيث ماكر يحاول أن يرى الناس، دون أن يراقبوا دوران عينيه.. ولكني لسوء الحظ لم أكن موفقاً في تقديري فقد انكشفت لي الحقيقة في أمسية اليوم الثاني، حين شاهدت الفتى ينهض عن كرسيه، وبيده عصا يتحسس بها طريقه.. وقد أقبل عليه صبي أسمر نحيف يبدو أنه حضرمي ليأخذ به إلى سيارة، وقفت على بعد مائة متر منه، إن الفتى لم يكن ماكراً كما ظننت.. بل مسلوب البصر.. أعمى..! أحزنتني هذه المفاجأة وآلمني أن يفجع هذا الشاب بأعز ما يملك من نعم الله، وهو في فجر شبابه، وأحسست نحوه شعوراً غريباً تمتزج فيه الحسرة بالألم، رغم أنه لا يربطني به شيء، أكثر من صلة الإنسان بإنسان آخر غريب.
وشاهدته في اليوم الثاني يجلس منفرداً في نفس الساعة وفي نفس المكان فولدت في نفسي الرغبة في التعرف إليه.. لكنني لم أجد سبباً وجيهاً أتوسل به إلى تحقيق رغبتي.
فقد كان يؤثر الوحدة وليس من الذوق أن أفسد عليه وحدته وهدوءه، ولكن رغبتي في التعرف إليه ما لبثت أن أصبحت إصراراً.. وفجأة. وجدت نفسي أتقدم منه وأحييه، فنهض عن كرسيه ومد يده في الفضاء تبحث عن يدي.. لتصافحها.. وسلم عليّ بحرارة كأننا صديقان وفيان يربطهما ود عامر قديم.. وحياني فكان رقيقاً في تحيته، وتحدث إليَّ فكان عذباً في حديثه.. وكان صوته وحديثه يُنبئان عن ألم دفين يحاول أن يخفيه بابتسامات خفيفة مخادعة.
وسكت لحظة.. غير أنه لم يشأ أن يدعني في صمت، بل طلب معرفة اسمي، وأعلمني أن اسمه (مؤمن) وسألني عن عملي وعن نصيبي من الدراسة فأجبته بما لدي.. وأخذ فكري المشغول بمعرفة سره، إلى حديث أدبي ممتع تكلم فيه عن التجديد في الأدب.. والأدب الواقعي وتعرض لبعض الأدباء المعاصرين، وأبدى رأيه في إنتاجهم، فكان قوي الحجة واضح المعنى، مما يدل على اطلاع واسع عميق.. وعرفت من حديثه أنه قد أتم دراسته في كلية الآداب بالجامعة المصرية وهكذا كشف عن ناحية خفية من نفسه فازددت أعجاباً به، وألماً وحسرة على مصيره التعس المحزن.. وكنت أدرك أنه لم يكن يتحدث إليَّ حباً بالحديث، بل مجاملة للصديق الجديد، وإخفاء لما تنطوي عليه نفسه المحزونة من آلام عميقة قاتلة.. كان يرفع رأسه إلى السماء ويقول بين كل جملة وجملة: «لك الأمر يا رب..» وهذا أصدق ما يكون دليلاً على استسلامه لواقعه المر وإيمانه بالله.
أما أنا فقد وجدت نفسي مأخوذاً بمعرفة سر آلامه.. أهو فقد بصره؟ أم أن هناك أمراً أشد وأقسى..؟ وتساءلت هل قدر لصاحبنا أن يدخل الجامعة وهو أعمى أم أن الفاجعة نزلت به حديثاً؟ وحاولت أن أجد جواباً لهذا التساؤل الحائر الملح فما أفلحت.. كما أني لم أجرؤ على التحدث معه في الظروف التي أدت إلى فقد بصره فأزيد بحديثي آلام جرحه الدامي.. بل لزمت الصمت وفي نفسي رغبة عنيفة لمعرفة أسباب شقوته.
ويبدو أن (مؤمن) قد أنس مجلسي وأراد أن يشركني في وجدانه المحزون ويطلعني على آلامه، علّه يجد في الحديث تسرية عن نفسه، وتخفيفاً لأوجاعها.. فبدأ يتكلم بصوت خافت متقطع كأن يداً عنيفة متوحشة.. قد أطبقت على زوره لتعد عليه أنفاسه عداً.. قال إنه التحق بكلية الآداب وفي نفسه آمال جيل بأسره، وكان في حياته الجامعية مثالاً للشاب الحريص على مستقبله وسمعته.. وكانت أجمل أمنية تداعب خاطره وهي أن يتم دراسته الجامعية ويقترن بابنة عمه مريم تلك الفتاة الحسناء التي وهبها الله من جمال النفس ورقتها ما جعل (مؤمناً) يحمل لها أصدق معاني الحب..
انقضى العهد الجامعي والفوز يرافقة كل عام.. وتخرج الفتى متفوقاً فعيِّن مدرساً في إحدى المدارس الحكومية في مصر، وبدأ يهيئ نفسه للزواج من ابنة عمه مريم وصادف أن عرض عليه الانتداب للتدريس في دمشق لمدة عام واحد.. وكان العرض مغرياً نظراً لزيادة الراتب وتوافر بعض الامتيازات السخية الطيبة.. وتردد الفتى بين عاطفته وعقله.. أيستجيب لصوت هواه فيبقى مع ابنة عمه ويغتنم صفو الحياة؟ أم يستجيب لداعي المصلحة فيسافر إلى حيث يتمكن من جمع مبلغ طيب، يساعد على الإسراع في إتمام مراسم الزواج؟
ولم يطل تردده.. بل سافر إلى دمشق يحمل معه أماني والديه وقلب ابنة عمه.. وكانت مريم تزود فتاها برسائل رقيقة يجد فيها من الغذاء العاطفي، ما يعلو بهمته ويخفف لوعة الفراق. وانقضى العام الدراسي الأول وسافر مؤمن إلى القاهرة وهو راغب في تجديد عقد الانتداب لعام آخر، وعرض الفكرة على فتاته وأبويه فوافقوا بعد تردد.
عاد مؤمن إلى دمشق مرحاً باسماً، كأنه الزهرة في فجر ربيع ندي، وأوشك العام الثاني على الانتهاء، وبدأ صاحبنا يهيئ نفسه للعودة إلى بلد أحبابه، وهو منشرح الخاطر.. صافي البال كأسعد بني البشر.. وفي هذه الأثناء نزل عليه مرض مفاجئ.. وكان المرض خفيفاً في بدايته فاشتد وتضاعفت شدته.. ومرت عليه أيام كأنها الموت في قسوتها يغالب المرض ويصارع لوعة الشوق والاغتراب.. ولزم الفراش شهراً وهو بين الموت والحياة، وبعد أن شفي من علته فتح عينيه ليستمتع بجمال الحياة فوجد أن النور قد استحال ظلاماً.. لقد فقد بصره وأصبح كفيفاً نتيجة لذلك المرض الثقيل الذي ألمَّ به.. وكانت صدمة كافية لأن تطيح بعقله وتجعله في عداد الهالكين.. لو لا أنه فتى صادق الإيمان.. يؤمن بأن المرء لا يصيبه إلا ما كتب الله له.
عرض نفسه على الأطباء المحليين، ولكنهم عجزوا عن علاجه، وأشاروا عليه بالسفر إلى (لندن) حالاً ليعرض نفسه على بعض الإخصائيين من أطباء العيون فسافر إلى لندن وعاد منها كما ذهب بعد أن قيل له إن حالته ميئوس منها.. ولأنه لا أمل في شفائه.
وبدأ اليأس يفتك به.. وبكى شبابه الضائع وآماله القتيلة لقد كتب عليه أن يعش شقياً وهو في الأيام الأولى من ربيع حياته.. وفكر في مستقبله الأسود وبالأيام التي سيقضيها عاجزاً شقياً معذباً، لا خير فيه وفكر في والديه اللذين نكبا بابنهما العزيز وفي ابنة عمه (مريم) التي أودعته قلبها وأمانيها، وهل ستقبله زوجاً بعد أن أصبح إنساناً عاجزاً أحوج ما يكون إلى الشفقة والرثاء؟ وإن قبلته بدافع الوفاء.. فهل من العدل أن يوافق هو فيكون سبباً في شقائها..؟
ولبث في دمشق شهرين تتنازعه عوامل اليأس والأسى، وتصور له بشاعة الأيام التي يحياها، وتزين له الانتحار، كوسيلة للخلاص من الشقاء الذي سيلازمه مدى حياته.. ولكن زاده من الإيمان قوي وفير وانقطع عن مراسلة أهله، ولم ينبئهم بالحقيقة المحزنة.. بل آثر السكوت رغم ما يثيره ذلك من شكوك ومخاوف في نفوس والديه وابنة عمه التي تنتظر قدومه كما تنتظر الأطيار مطلع الربيع وزادت في ألمه تلك الرسائل القاسية الظالمة التي ترده تباعاً من أهله، يتهمونه فيها بأنه مال نحو فتاة ثانية، ويأسفون لغدره وخيانته للعهود، وينسبون إليه أوصافاً هي أبعد ما تكون عن جوهره الطيب.. ومع ذلك فإن الفتى لم يفكر في إعلام أهله بالحقيقة المرة.. بل كتب إلى صديق له في جدة يخبره بالنازلة التي دهته فأشار عليه هذا الصديق أن يحضر إلى الحجاز علّه يجد في جوار بيت الله عزاء وسلوى، وفعلاً حضر مؤمن إلى (جدة) حيث قدر له أن يجد عملاً براتب محترم.. بالرغم من عجزه، وحيث قدر لي أن أراه على شاطئ البحر.
وانتهى (مؤمن) إلى هذا القدر من الحديث ثم نظر إليّ بعينيه المظلمتين وشدّ على ذراعي بيده المرتجفة المحمومة وقال: (هذه قصتي يا صديقي وهذه حيرتي التي تكاد تودي بي ماذا أفعل؟ هل أتجاهل آلام أهلي وابنة عمي وأهدم كل ما بنوه فيَّ من آمال.. فأكون بذلك كالابن العاق والخطيب الغادر وأنا البار بوالدي الوفي لعهودي..؟ أم أخبرهم بالواقع الرهيب والحقيقة المحزنة فتحطمهم المفاجأة تحطيماً..؟ إن الحزن يكاد يقتلني لولا الإيمان بالله وبرحمته.. هذه قصتي أيها الصديق الأخ.. إني في أشد الحاجة إليك فكّر علك تهتدي إلى حل ينقذني من هذه الحيرة المميتة.. وغداً سألقاك هنا على الشاطئ بعد المغيب..).
ونهض الفتى ليقوده الصبي إلى السيارة التي تنتظره كالذبيح الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.. وأما أنا فقد لصقت قدماي بالأرض وأحسست كأن البحر قد استحال إلى مارد متوحش يريد أن يفترسني.. فحملت نفسي إلى البيت محزوناً على حيرة صديقي البائس، ولم أنم تلك الليلة فقد لبث طيفه الشقي ماثلاً أمام عيني.. يشكو ويطلب العون والسلوى واستعرضت المشكلة من شتى وجوهها فوجدتها مرة عسيرة.
وفي اليوم التالي ذهبت مبكراً إلى الشاطئ للقاء (مؤمن) وغابت الشمس وجاء ما بعد المغيب. ولكنه لم يأت ومر أسبوع كامل.. وأنا أحاول لقاءه كل يوم على الشاطئ المغيب ولكن بدون جدوى، وهكذا خلف ميعاده بعد أن خلف في نفسي ألماً وحسرة وأنت أيها
(القارئ الكريم) بربك إن لقيته فذكِّره بوعده.. وقل له إني في انتظاره هناك على الشاطئ بعد المغيب.
mufradat@hotmail.com