خلال 45 عاماً حاولت أن أتعلم من الشيخ جميل الحجيلان دروساً كثيرة. ولشدة تواضعه يبدو لك أن التعلم منه بسيط وسهل، ثم يتبين لك أن تقليده صعب، وأنه لكي تتمكن من اتباعه لابد من مكونات ومن بعض سيرته ومن بعض خصائله ومن بعض طباعه. ولا مجال.
كتب لنا الشيخ جميل الحجيلان خلال شهر من مدينتين: بطرسبرغ، مدينة القياصرة، وأسطنبول، مدينة السلاطين. والمشكلة في مقالات هذا الدبلوماسي، الذي بدأ حياته كاتباً، ثم مترجماً للقصص الفرنسية، بليرة ذهبية عن كل قصة، المشكلة أن مقالاته قصيرة، خاطفة، مهما طالت ما أبدع كيف خلط بين التجربة الشخصية وبين تأمله في تاريخ المدينتين العظيمتين. حاول أن تعثر عليه في تلك التأملات. حاول أن تعثر على الوزير السابق أو الدبلوماسي الذي بدأ في باكستان وكان أول سفير بعد استقلال الكويت ثم سفيراً في بون ثم عقدين في باريس، يتمنى خلالهما فرنسوا ميتران على السعودية ألا تغير سفيرها. لا تحاول.
هذا أستاذ أيضاً في آداب الكتابة وأخلاق الرواة وأمير من أمراء التواضع. فعبثاً تحاول. أنه يترك الادعاء للأدعياء والأدوار للمسرحيين والأقنعة المضحكة للمضحكين. عبثاً تحاول أن تغري جميل الحجيلان بالتنازل عن ذلك النبل المطبوع، فإنه قد نشأ يافعاً في ظلال الملوك، وتنوّر بأخلاقهم، ومعهم أدرك أن النخيل إنما يطلب العلاء ليكثر في العطاء.
ولي ادعاء عابر في كتابات هذا الرمز الجميل من رموز الدبلوماسية العربية الراقية. فطالما ألححت بأنه لا يجوز ألا يدوّن للناس بعضاً من التجربة الثرية في السياسة والدبلوماسية والعمل العربي.
وكان يتردد خشية أن يخطئ، أو حتى أن يلحن، في حق الأمانة وما تلف به. وكنت أصر بأن في التجربة من الغنى ما يتجاوز أمانة المهمة. ولعل أوضح مثال على ذلك هو ما ينشره منذ فترة في «الشرق الأوسط»، حيث يبدو بوضوح تميز صاحب التجربة الشخصية على معشر الكتاب الذين لا تتعدى تجاربهم المتابعة المهيئة، كأمثالنا. وما زلت أتعلم من جميل الحجيلان، وقناعتي أن كثيرين يفعلون. دروسه سهلة وتقليده ممتنع.