في هذه الحياة تقابلُ شخصيات عديدة، بعضها يمرّ مرور الكرام ؛ ولربما يرحل عن العالم دون أن يترك لديك انطباعاً أو ذكرى أو حتى معلومة تستفيد منها. ومنهم من يحتل ذاكرتك ويعيش معك حتى لو ابتعدت عنه أو رحل عن الدنيا.
الكتابة عن شخصية مُلهمة مثل الشيخ جميل الحجيلان - الذي تعاملت معه 4 سنوات خلال عملي في الأمانة العامة لدول مجلس التعاون بالرياض في الفترة الأولى من قيادته الأمانة العامة عام 1996 -1999 - تحتاج إلى ذاكرة مُتقدة، وأنا بدأت أفقد هذه الميزة نظراً لأحداث الدهر وتقلبات الظروف.
في بداية عملي مع الشيخ الحجيلان، كان يريد أن يختبر المدراء في الأمانة العامة، ولم يدخل مكتبه، بل داوم في مكتب قصيّ، وبدأ يطلب المدراء ليكتبوا تقارير موجزة عن أداء إداراتهم، ونظراتهم لتطوير تلك الإدارات. ولعله كان - في هذا الاختبار - يريد أن يكوّن فريق عمل من المؤهلين القادرين على الصياغات القوية التي تتطلبها الملفات الوزارية.
وشاءت الظروف أن أكون من أعضاء الفريق، وهي مهمة صعبة، لأن الأمين العام دوماً له هواجس، ويتلقى هموم وآراء 6 بلدان، وعليه قيادة أكثر من 400 إنسان في الأمانة العامة. ناهيك عن متابعته «هيجان» السياسية في المنطقة ؛ بل وعتبَ الدول.
ولأن الحجيلان كان إعلامياً من الدرجة الأولى، فقد أعطى إدارة الإعلام اهتماماً زائداً. وكان يوافق على مشاريعنا التي نتقدم بها، ولكنه كان حازماً في قضية ما يخرج من الأمانة العامة من تصريحات.
كان (بطريركياً) أبوياً في التعامل مع الآخرين، ودوماً كان يناديني (يا ابني) وهذا ما أضاف لعلاقتي معه أبعاداً أخرى ؛ بل وحببّني في الدوام المسائي ولربما الليلي في الأمانة العامة. في المؤتمرات أو القمم الخليجية تتجسد أبوية الحجيلان في أن يرى كل أعضاء الفريق المرافق له على طاولة الغداء أو العشاء. وإن تسللَ أحد الزملاء كان يحاسبه على ذلك في اليوم التالي.
الشيخ جميل الحجيلان مؤسسة ثقافية متحركة. فهو مخزون لغوي، وإن كان يغيظنا بإجادته اللغة الفرنسية بطلاقة ! ونحن أبناؤه لا نجيدها ! وهو مخزون تاريخي نظراً لعلاقته مع الملوك السعوديين منذ عهد الملك فيصل رحمه الله. وهو رجل إعلام كونه أول من أدخل الإذاعة في الرياض وسط مجتمع محافظ جداً وكان وزيراً للإعلام. وهو مخزون دبلوماسي نظراً لتمثيله بلده في فرنسا لفترة طويلة. لذلك لم نجد أية صعوبة في التعامل معه، بل والتردد عليه من أجل كسب المزيد من خبرته.
وعندما تدلهمُ الأمور، ويتكهرب الجو في الأمانة العامة، بحلول ظروف هامة، فإننا نتحلق حوله. وأذكر أنه في إحدى الليالي كنا بانتظار أن يُصدر الأمين العام بياناً حول قضية معينة! وجاءت الساعة الحادية عشرة، ونشرات الأخبار في المنطقة تنطلق الساعة الثانية عشرة ! وكان الرجل مهموماً وعلى اتصال بالهاتف. تقدَمت له وقلت له: إن أمانة الجامعة العربية قد أصدرت بياناً - حول الموضوع - ونحن مازلنا بانتظار بيانه ! حَملق في وجهي، وأشعرني بضيق يعانيه، وكان متوتراً، وأشار إلى الجميع بأن يذهبوا إلى مكاتبهم لحين يأتيهم إشعارٌ بما يجب أن يعملوا !.. أحسستُ - أنا بالذات- بانكسار وذلك لقربي الشديد منه ومعزتي عنده، رغم أنني أقوم بواجبي لأن يكون للأمانة العامة موقفً، وعدم إصدار بيان يعني في العُرف السياسي موقفاً.! ذهبتُ إلى مكتبي! ولم أمرّ على مكتبه ليومين. وفي اليوم الثالث جاءتني مكالمة منه، يسأل عني، ودعاني لشرب الشاي في مكتبه، وشرح لي الموقف بكل محبة.هذا هو الموقف الوحيد الذي شعرت فيه بانكسار، وعندما علمَ زملائي في إدارة الإعلام ما جرى علقوا على الموضوع بقولهم: هذه ثقافة شيوخ.. يجرحون ويداوون !. وعادة ما يكون دواؤهم بلسماً.
تعلمتُ من الشيخ جميل قوة اللغة ورصانة العبارات، كما تعلمت منه الإيتيكيت وقوة الحجة. كان يقرأ أوراق المستقبل ولديه حدسٌ واضح. عندما قررت العودة إلى وطني عام 1999 وقف إلى جانبي ودعاني إلى مواصلة عملي في الأمانة، وعرضَ علي درجة أمين عام مساعد، لكنني كنت قد حزمت أمري. بعد 6 شهور ندمتُ على ما أقدمت عليه، فقد كانت وجهة نظره صائبة ؛ ولقد قرأ ما كان سيحدث لي بعد تركي العمل في الأمانة العامة.
ولن أنسى له موقفه عندما كتب خطاب التوصية الخاص بي لوزير الخارجية في بلدي، حيث كتبه بيده وبحبر أسود من قلمه الأنيق الضخم، وكانت عبارات الخطاب مؤثرة وصادقة ومشيدة بعملي وشخصيتي، ولكن للأسف تاه الخطابُ وسط الدياجير.
كما لن أنسى له تواضعه وحضوره إلى منزلي المتواضع مع بعض الزملاء من الأمانة العامة لمجلس التعاون قبل سفري بفترة قصيرة.
الشيخ جميل الحجيلان شخصية تقول لك أنا هنا دوماً ! شخصية تؤثر في المكان كما أثّرت في الزمان. أتمنى له الصحة والعافية، وأن ألقاه قريباً.