عرفت معالي الشيخ جميل الحجيلان كاتباًَ إلا أنه مقل.. فهو لا يطلق ما يبدع نحو المطبعة إلا بعد تمحيص ومراجعات، وإنني معجب بما يكتب على ندرته، فهو من أكثر المثقفين ثراء معرفياً من منطلق تجاربه الثرية وأعماله الدبلوماسية والإدارية التي قام بها على أعلى المستويات، كما أن معايشته لمختلف البيئات كنتيجة حتمية لعمله في بلاد مختلفة مثل إيران، والكويت، وألمانيا، وفرنسا، وأمريكا، وأميناً عاماً لدول مجلس التعاون الخليجي، قد أسهمت في تشكيل رؤية «بانورامية» اتسمت بها أفكار معاليه، وصبغت الكثير من الأعمال والإنجازات التي حققها على أرض الواقع.
التقيت بمعاليه في نطاق العمل الإعلامي أول مرة بصفتي مدير المكتب الخاص للمشرف العام للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، وهي وظيفة يدرك القارئ أنها تعني الانتقال بصورة تلقائية إلى عمل آخر أو جهة أخرى بمجرد وصول مدير جديد لأنه غالباً ما يختار مدير مكتبه الخاص، باعتبارها وظيفة يكمن فيها كثير من الخصوصية لأنها تربط بين المسؤول في قمة الهرم الإداري وبقية الإدارات، بالإضافة إلى التنسيق مع المواطنين والمراجعين.. وبتعيين معاليه مديراً للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، أعددت نفسي للمغادرة بعد أيام في إجازة، إلا أنه بلماحية وذكاء فطري طلب مني الجلوس على كرسي أمام مكتبه، وقال لي بدبلوماسية كبيرة: إن الكرسي الذي أجلس عليه ليس ملكاً لي أو لك، أمامنا عمل إذا اتفقنا على تسييره فليس لي اعتراض على الأشخاص، فنحن إخوان علينا رسالة ينبغي أن نؤديها كل في مجاله.
وهكذا بدأت رحلة عملي معه واستمرت لمدة تسعة أشهر تقريباً، فوجدته من أنبل الرجال وأصدقهم وأكثرهم إخاء ووفاء، وغرس في تلك الفترة سياسة الباب المفتوح والقلب المفتوح لكل الزملاء مقرونة بالتعامل بندية من يعرف قدر نفسه وجميل عطائه، فاستطاع أن يوجد فرقة موسيقية لا تسمع فيها نغمة نشاز.. كما امتاز بأنه صارم في الحق وعنيد في مجابهة المشاكل ولا يهدأ له بال حتى يصل إلى حلول مناسبة، ولا يثق في أي أمر قبل الدراسة والتمحيص، مع احتكام مستمر للعقل والإقناع والاقتناع، فإذا فاز أحد بثقته فإنه من المؤكد أن يصل إلى ما يريد.. فهو بعيد كل البعد عن «المزاجية» و«الهوائية»، لكنه تركيبة فريدة من منطق، وعقل، ودليل، وبرهان.. فهو معها وبها إلا إذا اعتورها ظلم صراح.
وسعدت بزمالة معاليه في المرة الثانية لأشهر قليلة عندما أصبحت المديرية وزارة إعلام واختياره وزيرها، فلم يكن قط رجل تصفية حسابات، بل بناء حسابات مع الآخرين تراكماً لما فيه مصلحة الطرفين.. وبمد مزيد من جسور الثقة تحولت العلاقة من عمل بحت إلى حميمية أعمق.. وكما دخلت وتعرفت على معاليه بيد ممدودة بكثير من حسن النية، ودعته كذلك بيد تفيض أيضاً بحسن النية ولكن بمقدار أكبر لأنه من خيرة من يخدم الوطن.
لقد ألغى معاليه مفاهيم كثيرة، وثبت أخرى، ولا يعني ذلك إلغاء طرق ووسائل من سبقه في هذا المنصب المهم، لكنه استحدث طرقاً تؤدي إلى نفس الغرض بمفاهيم جديدة مع إثراء الأداء قدر الإمكان.
وأحسب أن من أهم ما يميز معاليه أنه يعيش ليتعلم، مع تمتعه بكل الصفات القيادية، فهو حريص في الطرح، لكنه إذا وصل إلى قناعة بعد درس وتمحيص فإنه من المستحيل أن ينسحب عن مواقفه أو يغيرها إلا إذا رأى ظلامة بين طيات الموضوع، فإنه لا يتردد في مراجعة الأمر مرات ومرات بكل شجاعة.. أبو عماد يختزل في كلمة واحدة إنه «الرجل».