عرفتُهُ وزيراً للإعلام في عهد الملك فيصل.
في مدّته تحرّك الإعلام السعودي، بتأييد من الملك الحكيم، المتفتح على شؤون عصره.
وفي مدّته بدأ البثّ التلفزيوني، بدون ضجّة إعلاميّة، ولا حشد لأعيان المجتمع.
واتفق أنّي زرتُ السعوديّة بعد ذلك بقليل، وفي مقابلة مع الملك فيصل سألته لماذا لم يقع الاحتفال - كما في سائر البلاد العربيّة - بتدشين المؤسّسة التلفزيّة؛ فأجابني بحديث طويل فيه الحكمة السياسيّة، وفيه معرفة دقيقة بالمجتمع السعودي، خلاصته أنّ التلفزيون له في المملكة صورة سيّئة، والأوساط الدينيّة ترى فيه أداة لهو، وربّما نافذة على الأخلاق الأوروبيّة.
فاختار الملك أن يردّ على هذه المخاوف بالتجربة الملموسة؛ فجعل التلفزة السعوديّة تأخذ في بثها؛ لِيرى الناس أنّها، بالتوجيه الصحيح، يمكن أن تكون أداة توعية دينيّة، ووسيلة قويّة من وسائل التثقيف، وهكذا وقع، وتغيّر الموقف تجاهها. ومرّ إحداث التلفزيون بالمملكة، بدون أن يُثير أيّ صخب ولا مظاهرات، بل إنّ المجتمع أصبح متابعاً لبرامجه بكلّ شغف. والمحافظون أنفسهم زال عنهم ما كان يُساورهم من خوف.
وفي محادثاتي مع الوزير جميل الحجيلان - وزيراً للإعلام - لاحظتُ أنّ الرجل يفهم شؤون الإعلام فهماً دقيقاً، وأنّ له ذهنيّة متطوّرة، وثقافة عصريّة واسعة، وله جُرأة في تحليل القضايا الاجتماعيّة.
وخلافاً للكثير من وزراء الإعلام في تلك الفترة كان جميل يربط الإعلام بشؤون المجتمع؛ تطويراً له، وتوعية - لا فقط بأمور الحكومة والسلطة الرسميّة. يرى أنّ الإعلام من أهمّ وسائل القفز بالمجتمع السعودي إلى قلب القرن الذي يعيش فيه، ولم يكن - في نظره - مجرّد محاكاة للمجتمعات الناهضة، ولا أداة ترف ولهو.
كانت محادثاتنا، إذاك، تزيدنا تقاربا في المجالات المهنية التي تهمّنا، ولكن أيضاً في سائر المواضيع السياسيّة المطروحة في تلك الحقبة.
في تلك الفترة لم تكن علاقات تونس والسعوديّة مع عبدالناصر على ما يُرام، لكن لاحظتُ أنّ جميل، بقدر ما يحترز من «الأبواق الناصريّة» - كما كان يُقال - لم يكن في نفسه تشنج إزاء الزعيم المصري. وأنّ محبّته لمصر - خاصّة أنّ زوجته منها - كانت تتغلب على الكثير من الاعتبارات.
وكان يحيط به ثلة من أعضاده في مختلف مجالات الإعلام، وكانوا على يقظة من أمرهم، وكانوا جميعاً يلهجون بذكر وزيرهم، يشيدون بخصاله ومناقبه.
ولاحظتُ، رغم أنّ معرفته باللغة الفرنسية كانت تبدو محدودة جدّا، أنه كان يتطلع إلى متابعة الشؤون الفرنسية، ويرغب في الحديث فيها. وتوطدت العلاقة بيني وبين الصديق جميل، وكذلك بين زوجتينا؛ فزادنا ذلك قُربًا.
ثمّ تقلبت الظروف، واحتدّت الانتقادات الموجّهة إلى سياسة الإعلام من قِبل أوساط محافظة. ويُنقل جميل إلى وزارة الصحّة.
ومن جهتي كذلك تقلبت الظروف وخرجت من الحكومة إثر الأزمة التي افتُعلت بهدف إبعاد صديق لي - هو أحمد بن صالح - عن الحُكْم، واتهامه بما لم يكن بتاتاً يدور بخلده.
وفي يوم ما دقّ جرس التلفون في منزلي، فإذا بسفير المملكة - وكانت بيننا مودّة - على الخط ّ يرجو زيارتي. وكان السفير أقدَم أعضاء السلك في تونس؛ إذ بقي في منصبه زهاء العقدين، وظننتُ أنه يقصد زيارتي بدافع المودّة التي بيننا؛ فإذا به يقول لي: «صديقك جميل الحجيلان يسأل هل أنت مستعدّ للقيام بمناسك الحجّ هذه السنة». فأجبته: «وهل يُعقل خلاف ذلك؟». وكنّا على مسافة يومين من يوم عرفات. وسافرتُ في اليوم التالي لزيارة السفير. واتفق أن تأخرت بكثير الطائرة عن أوقاتها المعلنة.
فوجدتُ في باب الطائرة سفير تونس موسى الرويسي - رحمة الله عليه - وكان من أبرع سفرائنا، وهو يقول: «تأخرتم كثيراً، والوزير مصرّ على استقبالك بنفسه». وكان فعلاً جميل الحجيلان، في ساعة متأخرة من الليل، بالمطار، ينتظرني، ولم أكن في منصب قد يقتضي مثل هذه الحفاوة. وجلسنا في بهو الاستقبال لحظات، وبادرني الوزير قائلاً:
«أين الستّ؟».
قلتُ له: «لم يُخبرني السفير بأنها مدعوّة أيضاً». فقال: «هذه عاداتنا في الاستحياء. هل عندها مانع من الالتحاق بك غداً (ليلة عرفات)؟».
وأعلمتُ زوجتي بذلك فطارت فرحاً.
ووصلتْ إلى جدّة في الليلة التالية. وكان ذلك صبيحة يوم عرفات. تهيّأنا بسرعة وخرجنا إلى مناسكنا. وكنا من المحظوظين؛ لأنّ كلا ّّ منا أُدخل إلى خيمة خصّصت لأعيان الحجّاج من الرجال والنساء.
وفي منا، حيث كان بقية الحجّاج تحت خيام، خُصِّصت لنا غرفة مجهَّزة بكلّ المرافق اللازمة، في شبه الفندق الوحيد الموجود هناك. وقمنا برمي الجمرات من أيسر السبل.
وفي الغد صباحاً بعث إلينا الوزير الحجيلان سيارة إسعاف من وزارة الصحّة، نقلتنا إلى مكة؛ للقيام بطواف الإفاضة، ثمّ من هناك قصدنا المدينة المنوَّرة، وكانت إذاك لا تزال خالية من الحجّاج.
وتيسّر لنا زيارة الحرم المدني في أفضل الظروف.
حرصتُ على استحضار كلّ هذه التفاصيل للتدليل على مدى العناية التي أحاطنا بها الأخ جميل، وقلّ أن حظي بها غيرنا في ذلك الموسم. ولن أنسى له هذا الجميل أبداً. وكانت من دلائل المودة التي انعقدت بيننا، أيّام الاضطلاع، معاً، بشؤون الإعلام. وهي، خاصّة، من خصاله العالية في الوفاء لأصدقائه.
ثمّ تقلبت الظروف، «وفرّق بيننا الزمان»، فكلّ منّا ذهب في سبيل له. ولم يكتب لنا أن نلتقي إلا في أثناء الثمانينيات.
كان جميل الحجيلان سفيراً بباريس، وكنتُ أميناً للجامعة. وكنتُ كثير المرور بباريس، في رحلاتي المتوالية إلى أوروبا أو إلى أمريكا. وكان مجلس السفراء العرب بباريس نشيطا جدّا، بفضل شخصيات مرموقة كانت في عضويّته. أذكر منهم سفير المغرب المرحوم الشرقاوي، وسفير تونس المرحوم الهادي المبروك، وصديقنا سفير المملكة الأستاذ جميل الحجيلان - أطال الله عمره بالصحّة والعافية -.
وفي إحدى زياراتي إلى باريس كان للجانب العربي اجتماع بوزارة الخارجيّة، وكان الترتيب يفرض أن يتداول الكلمة كلّ من الوزير الفرنسي والسفير الحجيلان عن الجانب العربي، والأمين العام. ففوجئتُ بالأخ جميل يرتجل كلمته، دون ورقة، وبطلاقة لسان نادرة في أعضاء السلك العربي، وبلغة راقية يغبطه عليها كلّ مَنْ استمع إليه.
أطنبت في سرد تفاصيل هذا الاجتماع؛ لأنها بليغة الدلالة على ما يتحلى به جميل من حزم وعلوّ همّة؛ فقد دخل باريس ولا تتجاوز معرفته للغة الفرنسيّة بضع كلمات وصيغاً خاصّة بالمناسبات، فإذا به يتقنها في بضع سنوات، ويتكلمها كأنه تعلمها منذ شبابه.
أغلب سفرائنا العرب من المشرق يغادرون سفاراتهم في باريس كما دخلوها: لا يقدرون على التحدُّث مع أعضاء الحكومة الفرنسيّة، ولا مع أفراد الشعب الفرنسي، مباشرة.
أمّا السفير جميل الحجيلان فقد اجتهد، وتحمَّل من العناء، حتى أتقن هذه اللغة الجميلة الصعبة، في آن. وكلّ الفرنسيّين الذين عرفوه يثنون عليه ثناءً جميلاً.
كذلك في سائر شؤونه: كلما اضطلع بمهمّة حكوميّة أو دبلوماسيّة بذل في القيام بها أقصى الجهد، وقام فيها بالأمانة، وشرّف بلاده والجانب العربي عامّة. وقد تابعتُ نشاطه على رأس مجلس التعاون، ولاحظتُ
الحزم الذي تحلّى به في اضطلاعه بالأمانة، ودقّة فهمه للمسائل السياسيّة، وقدرته على الجمع، في ذلك، بين الصرامة في التمسّك بالجوهر، وبين لطف النقاش مع الغير؛ ممّا أكسبه الاحترام والودّ، له وللمملكة التي هو متحدّث باسمها، وللجانب العربي عامّة.
و«فرّق بيننا الزمان» منذ أواخر الثمانينيات، لكن، كلما وقعت عيني على مقال له في الصحف قرأته بشوق ومزيد الاهتمام؛ لتجديد العهد بمودّتنا القديمة، لكن أيضاً - والحقّ يُقال - لأنه يُحسن الكتابة، كما هو يتقن التحدّث بالعربيّة أو بالفرنسيّة، وتحليلاته راشقة، وآراؤه حكيمة نابعة عن تجربة ممتزجة بعقلانيّة، وعن فكر عميق، وعن معلومات دوماً متجدّدة.
أدعو له بدوام الصحّة والعافية، وأبعث إليه، عبر هذه الرسالة، بأجمل المشاعر.