وقفت في المقالة السابقة على بعض جوانب من علاقة الحركتين الثقافية والإبداعية بالمؤسسة، وهنا نؤكد على أن الانتقال بالإبداع من مرحلة الفوضى (الفردية) إلى مرحلة الحرية (النظام - المجتمع) ضروري جدا لانتفاع المجتمعات البشرية من التجارب المختلفة في المعرفة والفنون. لأن في ذلك إيذانًا بتحول القصي/ الغريب/ المنكر/ المرفوض (إلى) دان/ قريب/ معروف /مقبول/ معترف به.
إن المجتمعات تتبنى بالضرورة وجهة نظر محددة تكيّف عبرها عالمها، وما تستقبله وما تنتهي إليها من أحداث ووقائع. وتتعدد هذه التجمعات بتعدد زوايا النظر الموجِّهة لكل تجمع منها. ووجهة النظر هذه أيا كانت بمثابة عقد بالوعي؛ فيه ما يتقدم وما يتأخر وما يكون رئيسًا وما يكون هامشًا، وما يرفض وما يقبل. وبموجب عقد الوعي تنتظم الحركة، ويتوحد التصور، ويمكن العمل بصفة جماعية؛ فلا حركة في أيّ اتجاه دون أن ترتبط بموقف يحدده الوعي أولا، ثم تتبعه سلسلة من الأفعال المتجاورة بين الرفض والقبول، فأي مشروع لا بد فيه من قبول مباشر ونفعي ورفض مباشر ونفعي مهما بلغ تسامحه واستشرافه. وما يمارس من الرفض أكبر بكثير مما يمارس من القبول، لأن خيارات القبول لفعل ما محدودة، أما الممكنات التي تخترقه وتشتته وتستدعي التغافل عنها فلا نهائية؛ لذلك كان خيار الرفض مقدما على خيار القبول وأكثر أهمية، ومن ثم فكل خطوة تخطوها المجتمعات تعني (فيما تعني) رفضا للسكون والتكلس؛ كما تعني أيضًا رفضها لسيلان الخيارات، فالتعددية محكومة في نهاية المطاف بعقد الوعي الذي يدفع لخيارات محددة ومحسوبة، وحتى التحولات الطارئة تكون عبر مرشحات تتحكم في تدفق المعلومات وفي توظيفها..
إن المؤسسة في الدولة الحديثة هو ما يمكن الاعتماد عليه بصفته مقياسًا للمقبول ومنظمًا للعمل الجماعي فهو يوفر المناخ المناسب وفق معاقدة خاصة لها شروطها الموضوعية والمُحدّدة للممارسات الثقافية والأدبية؛ ويعطيها الشرعية الكاملة؛ حيث يكون الإبداع- الفردي جزءًا مقننًا ضمن ممارسة عامة يهيمن عليها التعدد الذي صنعته القوالب الثقافية المهيمنة عادة. وهي قوالب غالبة موجهة للفكر؛ تستغرق كل شيء، وتتحكم في الخيارات الإنسانية= الاجتماعية بلا شك، ولا يمكن الخروج منها أبدًا؛ فالإنسان كما يرى موران كائن بيو-ثقافي شاء أم أبى. لذلك تكون حتى المؤسسات الأكثر ديناميكية وتواصلا مع الواقع أبطأ من الحركة الفردية؛ لأنها مثقلة بالأعراف والسلط أيًّا كان مصدرها، ومثقلة بقوالبها الإدراكية التي تشرط الوعي بل تصنعه..
وبما أن الإبداع – بصفته واقعة فردية - (حالة الفوضى) فإن استقبال المؤسسة له لا يتحقق إلا عند تواتر الواقعة في ممارسات تكوّنه تراكميًّا، وتقربه من الحالة الثقافية- بصفتها نشاطًا اجتماعيًّا عامًّا. ومن ثم تستقبله المؤسسة وتعترف به نموذجا قارًا لممارسة جديدة؛ يصطف إلى جانب نماذج سابقة وأخرى لاحقة.. وبرغم هذا فالمؤسسات هي قادة التنوير في المجتمعات لا لأنها ذات المبادأة، ولكن لأنها القادرة على استهلاك النماذج وتسويغها وتنظيمها وتعميمها على شريحة واسعة من المستهلكين. بعد أن تخضعها لمكونها الثقافي المعياري فيتمثله أو يتعاورا التغيير بينهما، ويتحول كل منها بالقدر الذي يستقبل الآخر ويستسيغه..
ومن هنا يتحدد واجب المؤسسي- ليكون ثقافيًّا وإبداعيًّا - في شقين:
-الأول: الابتعاد عن المركزي المنحاز لبؤرة معينة داخل النسيج الاجتماعي- الثقافي، حتى لا تتحول المؤسسة إلى أداة عمياء للإكراه والقسر والمصادرة، ولكن ينبغي لها أن تنجذب إلى الثقافي بعامة وإلى اللحظة الزمانية التي هي مركوزة فيها.
-أما الشق الثاني: فهو الاقتراب من لحظة الفوضى بل التماس معها؛ من خلال استقطاب هذه اللحظة عبر تقنينها للإفادة من خصوبتها وعنفوانها. ولتقنين الفوضى طرق كثيرة يمكن أن نعرض لها في إضاءة أخرى لاحقة إن شاء الله. وأكتفي بالإشارة الآن إلى أسلوب يقترحه علم الإدارة الحديث، وهو أسلوب العصف الذهني، حيث يقترح علم الإدارة تقنين وقت للعلاقات غير المترابطة والتفكير غير المنطقي في جسد الاجتماعات الرسمية، التي يجري فيها كل شيء بحساب دقيق، ويمنح كل متحدث وقتًا محددا لا يتعداه، وموضوعا لا يتجاوزه. ويسيطر عليها (أي الفوضى) بتقنين فترة العصف الذهني بنحو خمس دقائق، وبمراجعتها ومحاكمتها بعد ذلك. هذه الفكرة يمكن أن تنقل على صعيد التفاعل الإبداعي في المؤسسات الأدبية بحيث يتجاور المؤسسي الهامشي والمنمذج والمرحلي وذلك لأجل القفز على النمطية، والخيارات المحددة سلفًا، والإفادة من إدهاش الفوضى وطاقتها.