بعد أن نجح المصريون في إسقاط نظام مبارك اتجهوا بكلّ ما يملكون من طموح إلى التفكير الجادّ في بناء نهضةٍ تعيد إلى مصر مكانتَها الرائدة على مستوى العالم العربي.. وفي سياق اهتمام النخب المصرية بهذا الملفّ وُجِّهت الدعوة أكثر من مرة إلى الدكتور مهاتير محمّد، وكانت أهمها دعوته من قِبَل (اتحاد الصناعات المصرية) إلى المشاركة في (مؤتمر دعم الاقتصاد المصري).
تحدّث مهاتير محمّد في كلمة المؤتمر عن عدد من أسس النهضة (الحقيقية)، لكنه توقّف كثيراً عند الاستقرار السياسي؛ بوصفه الأساسَ الرئيس، ورأى أنّ الاستقرار السياسي في أي بلد ديموقراطي لا يمكن أن ينهض إلا على العناصر الآتية:
1- إجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
2- احترام نتيجة الانتخابات.
3- أداء الحكومة.
4- أداء المعارضة.
5- أداء البرلمان
6- الطرح الإعلامي المتوازن الذي يؤدِّي وظيفة الإعلام دون أن ينجرفَ إلى التهييج والتجييش.
وبيّن مهاتير محمّد في التفاصيل أنّ إمضاءَ هذه العناصر يحتاج إلى عقلية جديدة، تؤمن – أولاً وقبل كلِّ شيء - بقيمة الناخب وسلطته، ثمّ باستعدادها (الحقيقي) لتقبّل الخسارة.
وبيّن في جزء من كلمته أنّ من شأن هذه العناصر مجتمعة تحقيقَ الاستقرار السياسي، وبتحقيقه تكون مصر قد وضعت الأساس الأول لبناء نهضة حقيقية.
ولكي يكون مهاتير أكثر صراحة في ملامسة الوضع المصري فقد تحدث باستياء عما أطلق عليه (الثورة المفتوحة)، تلك التي تعتمد على الاعتصامات الدائمة، والمظاهرات المستمرة، والتقوّي بالعدد، والتكثّر بالمسافات المعطّلة من الشوارع، على أنها ممارساتٌ لعقلية أخرى غير العقلية التي تحتاجها الممارسة الديموقراطية؛ وأنها لا يمكن أن تحقِّق الاستقرار السياسي الذي تتطلبه النهضة؛ وتبعاً لذلك لن يكون من المنطقي على الأقلّ الحديث – في ظلّها - عن شيء اسمه (النهضة)!
لم يلتفت مهاتير كثيراً - في كلمته - إلى الجوانب الاقتصادية المباشرة كما قدّر كثيرٌ من المصريين (أو كما أراد منظِّمو المؤتمر)؛ لأنه على قناعة بأنّ إصلاحَ السياق الثقافي هو القاعدة الرئيسة لبداية نهضة رائدة، ولذلك حصل انقطاع كبير في التواصل بين الطرفين، فقد كان المصريون يتحدُّثون عن الشأن الاقتصادي كما لو كان بنية مغلقة تؤثر فيما حولها دون أن تتأثر به؛ وألحَّ كثيرٌ منهم على مهاتير محمّد بأن يقدِّم «وصفة» اقتصادية مناسبة لمصر، تكون منطلقاً لتحقيق نهضة رائدة، وقد تردّدت في أسئلة بعضهم مفرداتٌ من هذا القبيل كـ «خطّة» و»رُوشتّة» و»دواء» وما إليها.. لكنّ مهاتير محمّد كان حريصاً – أثناء الزيارة - على إعادة العامل الاقتصادي (المتضخّم في عقول النخب المصرية) إلى حجمه الحقيقي، ودمجه مع عوامل أخرى لا حدّ لها تحت السياق الثقافي الذي يحتاج إلى إصلاح جِذري؛ بل كان يجيب عن الأسئلة ذات الطابع الاقتصادي الخاص بإجابات ذات معنى ثقافي عام، حتى كأننا أمام هذه المشاهد الحوارية بين طرفين يتحدثان بلغتين مختلفتين، وبينهما عشرات الرسائل الضائعة أو المعلَّقة، وفيما يأتي مشهدٌ حواري قصير، يعبِّر عن شيء من هذا:
«المثقف: كيف يمكن أن تحقق مصر النهضة؟
مهاتير: بالوعي الديموقراطي، بمعرفة الديموقراطية وعيوبها!
المثقف: هل يمكن أن تكون مصر بلدا صناعياً؟
مهاتير: لا خيار لها في ذلك، إما أن تكون مصر بلدا صناعياً وإما أن تعيش في توتر.
المثقف: هل تؤيد فكرة الاقتراض من الصندوق الدولي؟
مهاتير: يجب على أي دولة أن تدير مسؤولياتها بعيدا عن أي تدخل من أي طرف..
المثقف: كم من الوقت تحتاج مصر لتحقيق النهضة؟
مهاتير: لايمكن لأحد أن يضع جدولا زمنياً بهذه السهولة، لكن قصر المدة وطولها مرتبط بوعيكم بالديموقراطية وعيوبها.
المثقف: ما الكلمة التي تريد أن توجهها للشعب المصري في هذه المرحلة؟
مهاتير: مصر لابد أن تقود العالم العربي بل الإسلامي، ولكي يحدث هذا لابد أن يكون الناس فيها صبورين، وأن يتقبلوا حالتي الفوز والخسارة! لابد أن يقبلوا الحكومة المنتخبة ويتركوها لكي تعمل».
نلحظ في المشهد السابق انتماءَ الإجابات التي قدّمها مهاتير إلى حقل يختلف تماماً عن الحقل الذي تنتمي إليه الأسئلة، وهذا التباين المرجعي يعطي انطباعاً بأننا أمام عقليتين مختلفتين، في تحديد مفهوم النهضة، وأسسها ومقوماتها، ومعايير تقويمها أيضا؛ ويمكن أن نقول إن الاختلاف بين الطرفين - في هذه المسألة - عميق، وليس اختلافاً عابراً...، هو اختلاف في الوعي وفي درجة عمقه أيضاً.
-2-
استأثر الزمنُ الحاضر بالمساحة الأكبر من خطاب مهاتير أمام النخب المصرية، وكان خطابه - بصفة عامة - مشغولا بالنفي أكثر من الإثبات، بـ (التخلية) أكثر من (التحلية)؛ ففي كلمته في المؤتمر وإجاباته عن الأسئلة حديثٌ عن وقائع تامة وليست محتملة، وفيهما أيضاً نفيُ دلالات مستهلكة لمصطلحات مهمّة كـ(التنمية)، و(النهضة)، و(الحرية)، و(الديموقراطية).. وأجد في تتابع حالات النفي، وتحركها داخل مستوى زمني واحد، ما يشفُّ عن قلق مهاتير (المبكِّر) من الحالة المصرية، كما أجد فيها قناعة راسخة لديه بأن مصر قد سلكت - منذ اليوم الأول بعد سقوط مبارك - طريقاً لا يمكن أن ينتهي بها إلى (التنمية) فضلا عن (النهضة)، وأحسب أنّ تقاليدَ الضيافة قد ألجأت مهاتير إلى استخدام إمكانات اللغة للجمع بين عنصرين لا يجتمعان: مجاملة المُضيِّف ومصارحته في الآن ذاته..!
إن مهاتير محمّد أحد الذين يشترطون توفّرَ درجة من الوعي قبل ممارسة الديموقراطية؛ لذلك تحدث – في أكثر من سياق – عن أن الديموقراطية ليست نظاماً سهلا، وأنّ لها وجهاً فاتناً يخفي وراءه عيوباً كثيرة، وكلتا السمتين تتطلب – منطقياً – درجة من الوعي المسبق، وإلا آلت المقاصدُ - ونحن لا ندري - إلى أضدادها!
-3-
يمكن أن نخرج من زيارة مهاتير محمّد لمصر بنتيجتين مهمّتين:
الأولى: أنّ تحقيق النهضة في بلد ما يتطلب - أولاً وقبل كل شيء - إجراء إصلاحات كبيرة للسياق الثقافي العام، للعقلية التي يفكّر بها، وللإرادة التي يمتح منها طاقته، وللمعايير التي تحكم وظيفة كلّ واحد من أفراده، وللمعايير التي تحكم منظومة العلاقات التي تربط بين أفراده، أو فئاته، أو أعراقه، أو أحزابه.
الثانية: أنّ أوّل أسس النهضة تحقيق الاستقرار السياسي، ولهذا التحقيق وجوه كثيرة، لكنه في الحالة الديموقراطية يتطلب جملة من العناصر، تشكِّل مجتمعة ما يمكن أن نطلق عليه الوعي المسبق بالممارسة الديموقراطية، بمعنى أن يكون الانتقال (أو التحوّل) السياسي وله مقابل فكري، يضمن على الأقل الانتقال الصحيح من نمط معين، دون الوقوع في عيوب نمط آخر!
ولأن النخب المصرية لم تظهر إيمانها بهاتين النتيجتين، أو لأنها لم تسع إليهما كما ينبغي فقد تعطلت الرسائل بين الطرفين، وأصبحت الأسئلة وليس لها جواب إلا الصدى!