(أ)
ماذا يبقى من طبيعة (كاتب الرأي) إن اخترلت مهمته على حماية قيم المجتمع، وعدم المساس بقداسته الموهومة، وذلك على افتراض قدرتنا على ضبط هذه القيم؛ وماذا يبقى من قيمة الكتابة إن مُنعت من انتقاد أيّ قيمة من قيم المجتمع، يناقشها (كاتب الرأي) بما يملك من حججٍ أنّها غير قابلة للصلاحيّة، خاصّة، تلك القيم المتنازعة عليها، التي هي محلّ تفاوض بين القديم والجديد، بين الآباء والأبناء، التي غالباً ما يكون لكتّاب الرأي رأي مغاير عن أكثرية ما عليه الناس، لأنّ الكاتب ليس ناطقاً باسم الناس أو المجتمع: (الأعراف، العادات، التقاليد) أو حارساً لها، لأنّه إنْ فعلَ تلبّسه ما يتلبّس الواعظ، وإن كنّا لا نقصي من يريد أن يلعب هذا الدور فذاك شأنه، لكنّه ليس دوراً نهائيّاً يقصينا عن ممارسة المواقف وتداول الآراء المختلفة والمغايرة عمّا نظنّه بالحجّة فاسداً أو متقادماً، فالاختلاف من خصائص الآراء، لأنّ القول إذا توافق (بالمطلق) لم يعد رأياً بل صار معلوماً من الكلام؛ وحينما نقول بثبات قيم المجتمع فهذا يدخلنا في شُبهتين؛ الأولى: شُبهة محافظة استبداديّة صارمة تورّطت بها الأحزاب والأنظمة الشمولية فراحت تحدّد ما هو صالح للناس وما يجب تناوله في الإعلام والكتابة والمناهج؛ وتمثيلاً: (الأدب الإسلامي، الفن الإسلامي، الاقتصاد الإسلامي،..)، والثانية: شُبهة وثنيّة ترفض التغيير وتثبّت ما آل إليها دون مراعاة الظرفيّات والمعطيات الراهنة؛ ولطالما أنّ سُنّة الحياة قائمة على التغيير والصراع الحادث عبر تقلّب المفاهيم والمضامين والقيم، فكيف يدار الصراع/الحياة/ الجدل إن لم يكن باختلاف القول والفعل في مواجهة ما فسد من القيم والأشياء والأفعال، وبتقديم البدائل الصالحة، وشيءٌ من هذا أصلٌ في قوّة الرأي وقيمته.
(ب)
تستعدّ جمعية كتّاب الرأي السعودية (رأي) لممارسة أعمالها قريباً، وفقاً لتصريحات رئيس مجلس إدارتها المنتخب مؤخّراً الأستاذ علي الشدي، وهي أعمال لم تتضّح بعد، لطالما الجمعية ومجلس إدارتها ما يزالون في طور إعداد الأهداف وخطط التنفيذ، ولست تدري على ماذا تمّ التأسيس إن لم يكن على أهداف واضحة، لكنّ التصريحات تبيّن وجود أهداف عامّة (تطوير الناشئة، زيادة الروابط والتواصل بين الكتّاب، رفع مستوى الطرح، دورات وندوات) وكلّها أهداف طوباويّة كأنّها مركز توعوي أكثر من كونها مركزا يفترض أن يضمّ: (أنداداً ومتساوين)؛ وعلى الرغم من موقفي النقدي من مشاريع اتحّاد كتّاب - أو من في حكمها-أنّها لا تقوى على إضفاء قيمة مدنيّة في مجتمعاتٍ ودولٍ تتأرجح بين الأعراف والقوانين، وما زالت تحت سلطتين: (أهل السلطة ورجال الدين)، لذلك فشلت في فرض مشروع أهلي يقلّص من صلاحيّات السلطة ويرفع وصاية المجتمع، ولم تقدّم حماية للكتّاب لا تتعارض مع حريّاتهم، وعجزت أن تكون ممثّلاً لهم في مسائل حقوقيّة أمام القضاء إذا كانت السلطة خصمهم، وأمام المؤسسات والشركات الإعلاميّة المستفيدة من كتاباتهم وخبراتهم، دون المساومة والتدخّل في المضامين والمفاهيم والمعتقدات التي يمثّلها الكاتب في آرائه وكتاباته، أقول: إنّه على الرغم من موقفي النقدي إلاّ أنّني بحثت في موقع الجمعيّة لعلّ فيه ما يغيّر رأيي من اتحادات الكتّاب أو ما يقع في حكمها؛ قلّبت الموقع ولم تكن هناك الكثير من المعلومات، إلاّ أنّ شرطاً واحداً ضمن شروط الانضمام الستّة المذكورة في الموقع قيدٌ فضفاضٌ وفخّ تسلّطي، وهو محلّ اعتراضي ولأجله بنيت هذا المقال، وهو الشرط المرقّم (3) ونصّه: (ألاّ يكون له - أيّ للكاتب الذي يرغب بالتسجيل والانضمام إلى الجمعيّة- مواقف أو آراء تتعارض مع قيم المجتمع) إذ وجدته عثرة تفسد الفكرة من أساسها وتحوّلها من فكرة لصالح الكاتب إلى فكرة ضدّه، وتجعل الفكرة - وإن كانت أهليّة- لعبة بيد السلطة تحت حجّة المجتمع وخصوصيّاته، وتأخذ الجمعيّة إلى بطريركيّة راعية استعلائيّة: (أ) تدّعي أنّها تريد أن ترفع من مستوى طرح الرأي، وهذا افترض يُفضي أنّ الآخرين يعانون ضعفاً في مستوى طروحاتهم؛ (ب) وتدّعي أنّها تريد أن تقيم الدورات والندوات وهو افتراض يخالط بين أعمال المدارس والمعاهد وبين أعمال الهيئات والجمعيّات؛ (ج) وتدّعي أنّها تريد أن تزيد من روابط التواصل بين كتاب الرأي، وغريب أمر هذا الهدف ومن يصرّ على حشره في كلّ نادٍ أدبي أو مؤتمر، أما يملّون من هذا التكرار الفارغ؟ كيف إذاً، ومواقع التواصل الاجتماعي قد حقّقت هذا الهدف، وحريّ بمؤسسة ناشئة أن تقوم على معطياتها الراهنة وليس على معطيات الأمس؛ فهل كتّاب الرأي بحاجة إلى نادٍ أو جمعيّة لزيادة التواصل والترابط بينهم، أمْ بحاجة إلى مرجعيّة تحصّن اتفاقيّاتهم الشفويّة أو الورقيّة مع المؤسّسات والشركات الإعلاميّة وتضع معهم الحدود الدنيا لمردودهم، وتمثّلهم أو تكلّف من يمثّل هم أمام القضاء بوجه السلطة إذا كانت خصمهم؟ (د) وتدّعي عبر (الشرط الثالث) أنّها تريد أن تكون حامية للمجتمع من الكتّاب المشاغبين وهذا أساس حاكم في الشروط، وهو الداعي لكتابة هذا الموضوع.
كنت أتقبّل اشتراط عدم المساس بالمقدّسات والثوابت المضبوطة من قبل الدولة/المشرّعة وليست المتروكة للأهواء، وكنت أتقبّل اشتراط عدم المساس بما يهدّد الأمن والسلم الأهلي من إرهاب وما يحرّض على الطائفيّة والفتن، ومرّة أخرى وفق ما هو مضبوط بالتحديد لدى الدولة المشرّعة وليس متروكاً للأهواء، أمّا الحديث عن (المجتمع وقيمه) فهو وهم يفضي إلى تناحرٍ وتعدّد في التفاسير والمرجعيّات، وهو محلّ افتراق وليس محلّ اتّفاق؛ ولست أدري كيف يمكن اعتبار (جمعيّة رأي) ضمن مؤسسات المجتمع المدني (ولنا عودة في مقام آخر لتفكيك مصطلح المجتمع المدني) ثمّ تجد في شروط الانضمام شرطاً مفتوحاً لقيم مطلقة غير مضبوطة لا يتوافق مع المجتمع المدني وفقاً لمفاهيمه المعاصرة –وإن كانت محلّ جدل واختلافٍ لكنّها لا تمسّ بحريّة الفرد ولا تعطّل الرأي تحت تقديس المجتمع - هكذا يمكن تحت حجّة المساس (بقيم المجتمع) أن يتذرّع مَن يريد بمهاجمة أيّ (كاتب رأي) ونصب المكيدة والفخّ في شيطنته أمام السلطة والناس.
وأيّما كاتب يقضي عمره تحت معطف قيم المجتمع فإنّه يمثّل الأكثرية الاجتماعيّة ونفوذها الطاغي، ومن الواقعيّة اعتباره (الناطق الرسمي للمجتمع وقيمه) بدلاً من اعتباره (كاتب رأي)، لذلك فإنّ هذا الشرط يجعل الكتّاب المنتمين له تحت إمرة واضع الشرط وتفسيراته، وهو اشتراط يحجر الرأي ولا يصون حريّته. وإذا أردنا تفكيكه: فإنّنا نخرج بأسئلة عديدة: ما هي هذه القيم الممنوعة على كاتب الرأي معارضتها؟ ومنذ متى كان يسمّى (كاتب رأي) إذا لم ينتقد السلطة والمجتمع معاً إذا ما نتج عنهما ما يظنّه خطأ أو نقصاً أو فساداً وفقاً لمخزونه المعرفي؛ وما هو المجتمع المدني، وما هي قيم المجتمع السعودي؟ وهل هو مجتمع مدني أو هل هو قادر بالمنظور القريب أن يكون مجتمعاً مدنيّاً لمجرّد وجود مؤسسات أهليّة غير حكوميّة؟ هل نحن أمام جمعيّة تريد أن تسوّر آراء الكتّاب، وتتورّط معهم مستقبلاً في (حسبة ثقافيّة آرائيّة)، فتغدو الجمعيّة أو أعضاءها حرّاسَ (الرأي) المراد تسويقه وطغيانه وفرضه، وهو ما تورّطت بفعله معظم اتحادات الكتّاب في الدول العربيّة أنّها وقفت بالتشهير والهجوم ضدّ من يكتب خارج أجندتها المباركة عليها من قبل السلطة.
(ج)
إنّنا لا نريد أن نحبط من عزيمة أحد، إنّما هو رأي أردنا أن نتداوله (والجمعية في مرحلة النشوء) لتفكيك الشرط/القيد، وطرح الأسئلة حول افتراضات في الأهداف العامة تخلط بين (المعهد والجمعيّة)؛ فهل من معالجة لذلك في طور الأهداف المزمع طرحها لاحقاً، تتضمّن حريّة الرأي، والعمل على إيجاد الحد الأدنى لحقوق دخل كتّاب الرأي، والاتفاق مع جهات قانونيّة لتمثيلهم والدفاع عنهم أمام السلطات، ومراجعة عقودهم مع الصحف وما يكون في حكمها؟!!
حينذاك تُبعد الجمعيّة عنها شبح الوقوع في البطريركيّة الراعية وتقترب أكثر من مفهوم مؤسسات المجتمع المدني، أمّا اختصار أهدافها على صياغات مكرورة ووضع الشروط التوجيهيّة على أعضائها فهو أقرب للذهنية المدرسيّة من الذهنيّة التنظيميّة الحقوقيّة والتي يجب توفّرها في أيّ تجمّع مؤسّساتي يريد أن يحمي حقوق وحريّات أصحاب المهنة أو الحرفة الواحدة.