نواصل ترجمة هذه الدراسة المهمَّة للبروفيسور تريتا بارسي وهو باحث ومفكر أمريكي من أصل إيراني. وهي الدراسة المستمدَّة من كتابة «مثلث الغدر: التعاملات السرية لإيران وإسرائيل والولايات المتحدة» (نيو هيفن: قسم النشر بجامعة ييل، 2007م).
لماذا تناصر إيران
القضية الفلسطينيَّة؟
ولذلك، كان هناك اثنان من المتطلبات اللازم تلبيتهما من أجل الحصول على موافقة إقليميَّة لدور إيران القيادي:
1- إبعاد إيران عن الدَّوْلة اليهودية (أي الانجذاب نحو الموقف العربي).
2- تجنب بزوغ منافسة دوليَّة جدِّية على الإقليم عبر منع القوى العظمى من العودة مجدَّدًا إلى الخليج الفارسي.
التضحية بإسرائيل لكسب العرب
أدرك الشاه أن الاستياء العربي لعلاقاته مع إسرائيل لم يعد من الممكن تجاهله. وفي رسالة إلى الشاه، عبَّر الخبير النفطي العربي المرموق الشيخ عبد الله الطريقي، عن الإحباط العربي لموقف إيران: «لا شكَّ أنك تعلم عمَّا تفعله إسرائيل بإخوانك المسلمين، وتعرف أيْضًا كيف دنست المسجد الأقصى ووضع جنودها أقدامهم في المسجد. ولكنك بالرغم من كل ذلك تصر على إقامة علاقات وثيقة معها، لا بل وتمدها بالنفط الخام الذي يلعب دورًا أساسيًّا في تشغيل قواتها المسلحة ضد إخوانك المسلمين. وبعد كل هذا، هل تتخيل أنّه من الممكن أن يكون هناك علاقات حسن جوار مع العرب؟! «(39)
وهكذا كُلَّما نمت قوة إيران وبالتالي الحاجة إلى القبول العربي، زادت حساسية الشاه تجاه نقد العرب لسياساته. وهذا ما أجبر إيران ليس على الاستمرار في رفض الاعتراف القانوني بإسرائيل فحسب، بالرغم من تمتعهما بعلاقات معروفة للعالم، ولكن أيْضًا السعي نحو المزيد من الدعم العلني للموقف العربي.
وفي الوقت نفسه، أصبحت الاعتراضات الإسرائيليَّة على تغيّر موقف الشاه لا تهم إيران مطلقًا؛ فالشاه «لم يكن يجب عليه التناغم مع إسرائيل... وكان يقلق بشدة عندما ينتقده أيّ زعيم عربي، ولكنه لا يهتم مُطْلقًا إذا انتقده مناحيم بيغن». إضافة إلى ذلك، أصبحت إيران تتفهم وتراعي الحساسية العربيَّة تجاه التعاون العسكري الإسرائيلي- الإيراني. ولذلك اقتصرت العلاقات العسكرية مع إسرائيل على الجيش والقوات الجويَّة ، لأن «القوات الجويَّة والجيش كانا داخل إيران، ولا يشاهدان من الخارج... لم نتمكن من جعل سفننا تبحر حول الخليج الفارسي مع صواريخ جبرائيل الإسرائيليَّة على متنها»(40).
تم تذكير الشاه باستمرار أنّه من دون ابتعاد إيران عن إسرائيل، سوف يكون من الصعب الحصول على موافقة العرب لتحقيق طموحاته. وانتهز الشاه فرصة لإظهار دعم طهران للموقف العربي وذلك أثناء حرب 1973، حيث قدمت إيران الدعم لكل من العرب والإسرائيليين، وحاولت بذلك توضيح الفوائد التي سيجنيها العرب من الزعامة الإيرانية للإقليم.
وقدمت الحرب العربيَّة-الإسرائيليَّة عام 1973، لإيران تحدِّيات وفرصًا؛ فمن ناحية، لم تكن إيران تريد أن ترى نصرًا عربيًّا من شأنه أن يعزِّز قوتهم ويجعلهم يحوِّلون تركيزهم إلى إيران.
كانت إسرائيل رصيدًا إستراتيجيًّا مهمًا لإيران بمعنى أنها «تمتص الكثير من طاقة العرب»(41). وكان منطق إيران هو أن «إسرائيل القوية ستجعل الدول العربيَّة تنظر إلى إسرائيل باعتبارها تهديدًا أكبر من إيران»(42).
وكانت إسرائيل تدرك تمام الإدراك هذا الضعف الكامن في علاقاتها مع إيران، وكذلك مع مبدأ «دول المحيط» (Periphery Doctrine)، ككل. وعندما حاولت إسرائيل تقويض التحسن في العلاقات العربيَّة-الإيرانية، اكتشفت تل أبيب أن إيران لها مصلحة في الحفاظ على مستوى معين من العداء بين إسرائيل وجيرانها العرب.
فوفقًا لـ إسحاق سيغيف، آخر ملحق عسكري إسرائيلي في إيران: «لقد كان الشاه ذكيًا جدًا... ففي اللحظة التي اكتشف أن كل الدول العربيَّة تعادي إسرائيل بقوة، عدّ أن من المناسب له مواصلة دفع وتحريض كل العرب ضد إسرائيل... وستكون إسرائيل هي الموضوع الذي من شأنه أن يحول غضب الدول العربيَّة بعيدًا عن إيران»(43).
ومن ناحية أخرى، كان انتصار إسرائيل يفسد جهود إيران لدفع الكتلة العربيَّة نحو الاعتدال. لقد كان بروز مصر الموالية للغرب هدية للشاه، لأنّها خفضت بشكل كبير من الخطر العربي ضد إيران.
وكانت إيران تعتقد أن حدوث انتصار إسرائيلي حاسم كان يمكن أن يُؤدِّي إلى سقوط نظام السادات وعودة مصر إلى المعسكر الراديكالي العربي الموالي للسوفيات. وفي الوقت نفسه، كان تحقيق نصر سريع لأيِّ من الجانبين سينعكس سلبيًّا على إيران لأنّه سيعزِّز هيبة ومكانة الطرف المنتصر.
كانت أفضل نتيجة تعزّز موقف إيران هي ضمان ألا يخرج أيّ من الطرفين من الصراع بنصر مطمئن لأن ذلك سيجعله قادرًا على تحدي مسعى إيران المطرد نحو الهيمنة والزعامة الإقليميَّة (44). ولكن ذلك لا يعني أن إيران كانت تفضَّل حالة حرب طويلة، لأن استمرار النزاع العسكري قد يوفر للقوى العظمى ذريعة للعودة إلى الخليج الفارسي.
وكان الشاه ينظر إلى مثل هذا السيناريو بقلق بالغ في طهران، ولذلك كان الشاه حذّرًا من «ألا يؤجج نيران الحرب»(45).
ونتيجة لذلك، حافظت إيران رسميًّا على موقف الحياد خلال الحرب بالرغم من وضوح القوة العربيَّة، ما تسبب بخيبة أمل إسرائيليَّة عظيمة. وخلافًا لحرب عام 1967، اعتبرت طهران تطلعات العرب لاستعادة الأراضي المُحتلَّة- بدلاً من تدمير دولة إسرائيل - بأنها مشروعة.
وأعربت وعبَّرت عن تعاطفها مع الجانب العربي من خلال المساعدات المباشرة لدول المواجهة (46).
ودعا السادات شخصيًّا الشاه خلال الأيام الأولى من الحرب لتزويد مصر بالنفط الخام. ووافق الشاه وخلال 24 ساعة، تَمَّ تسليم شحنة كبيرة من النفط الخام إلى القاهرة(47).
وإضافة إلى ذلك، طلب السوفيات في 4 أكتوبر 1973، إذن إيران لإرسال معدات عسكرية إلى بغداد (لاستخدامها في الحرب مع إسرائيل) عبر المجال الجوي الإيراني.
رفض الشاه الطلب السوفياتي، ولكنه سمح لأربع طائرات مدنية سوفياتية أن توصل قطع الغيار العسكرية للعرب. وتَمَّ ذلك من دون أن يشاور الشاه الولايات المتحدة، وأبلغ واشنطن قراره بعد عشرة أيام من موافقته على الطلب.
ولاحقًا أعطى نائب وزير الخارجيَّة الإيراني، أحمد ميرفندرسكي الإذن لخمس رحلات سوفياتية إضافية(48).
إضافة إلى ذلك، قدمت إيران للمملكة العربيَّة السعوديَّة طيارين وطائرات إيرانية للمساعدة في حل مشكلات لوجستية. وأوصلت طائرات إيرانية كتيبة سعودية إلى الجانب السوري من مرتفعات الجولان. وهناك، أخذت جنود سوريين جرحى ونقلتهم إلى طهران للعلاج(49).
وبرر الشاه قراره لوزير البلاط أسد الله علم: «إنه أقل ما يمكن أن أفعله نظرًا إلى أن السعوديين هم إخواننا المسلمون، وأنا حريص منذ فترة طويلة على توطيد صداقتنا»(50).
ومكنت هذه التدابير إيران من تطبيع العلاقات مع دولتين عربيتين إضافيتين: العراق والسودان. ولكن في الوقت نفسه، رفضت إيران الانضمام إلى الحظر النفطي العربي ضد إسرائيل، وواصلت تزويد إسرائيل بالنفط طوال فترة الصراع. كما زوّدت إيران قوات الدفاع الإسرائيليَّة بالأسلحة، بما في ذلك مدافع هاون التي تفتقدها من عيار 160 ملم الثقيلة(51).
ولكن بالرغم من ذلك، كان دعم إيران للعرب يقلق إسرائيل بشكل عظيم. ووفقًا لـ سولي شافار من جامعة حيفا: «كان الإسرائيليون قلقين ومتخوفين جدًا من التحول في موقف الشاه تجاههم وتجاه العالم العربي بعد حرب 1973»(52).
وفي مقابلة مع صحافي أمريكي يعمل لمجلة الحوادث في بيروت، رفض الشاه علنًا سياسة إسرائيل المتمثِّلة في السعي إلى تحقيق الأمن من خلال الاستيلاء على الأراضي حيث قال:
«ترتكب إسرائيل خطأً كبيرًا في الاعتماد على احتلالها الأراضي العربيَّة المُحتلَّة لضمان أمنها... ففي هذه الأيام حيث تحلق الطائرات بعيدة المدى على ارتفاع 80.000 قدم، وصواريخ أرض-أرض التي تتخطى أيّ موانع، ليس هناك شيء اسمه «حدود آمنة لإسرائيل»... الأمن الوحيد لإسرائيل هو ضمان دولي لحدودها السابقة... هل عند إسرائيل ما يكفي من الرجال لاحتلال العالم العربي كلّّه؟ هل يمكنها أن تذهب إلى الجزائر؟ هل يمكنها محاربة المملكة العربيَّة السعوديَّة؟ إضافة إلى ذلك، هل يمكن لإسرائيل مواصلة مثل هذه النفقات العسكرية على مدى الـ10 سنوات المقبلة؟ من الذي سيدفع ثمنها؟ ستدفعون أنتم أيها الأمريكيون، ولكن من أجل ماذا؟ لدعم قضية غير أخلاقيَّة مطلقًا: الاحتلال بالقوة لأرض بلد من قبل بلد آخر؟»(53).
وحاول المسؤولون الإسرائيليون بانتظام إقناع إيران أن تعكس سياستها، بحجة أن إيران لم تعد تعرف من هم أصدقاؤها الحقيقيون(54)، ولكن استجابة الشاه الباردة أدت إلى تزايد المخاوف الإسرائيليَّة بأن إيران قد تتطرف وتقطع العلاقات كافة مع إسرائيل(55).
الأمم المتحدة:
قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية
ثم جاءت فرصة أخرى للشاه لجذب العرب من خلال قرار الأمم المتحدة بالرقم 3379، الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية. نص القرار على أن «الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، ودعا إلى وضع حدِّ لجميع أشكال التمييز العنصري، بما في ذلك الصهيونية.
كان القرار برعاية الكتلة العربيَّة، وصدر في 10 نوفمبر عام 1975، بتصويت 72 معه و35 ضده، وامتناع 32 دولة عن التصويت. وشعرت إسرائيل بخيبة عميقة بعدما صوتت إيران لصالح القرار.
كان الوفد الإيراني إلى الأمم المتحدة قد تعرض لضغوط شديدة من الكتلة العربيَّة لدعم هذا القرار. ووقع جدل عاطفي ساخن بين وزارة الخارجيَّة في طهران وصغار أعضاء الوفد الإيراني في نيويورك.
كان موقف طهران الأولي هو الامتناع عن التصويت، ولكن الوفد الإيراني في الأمم المتحدة، وبإلحاح شديد من الدبلوماسيين ذوي المراتب الدنيا، نجح في إقناع طهران أن تعكس موقفها بعد التأكيد على الفوائد السياسيَّة للتصويت مع القر ار. كما مال صغار الدبلوماسيين الإيرانيين من ذوي الرتب المتدنية أيْضًا إلى الاتفاق مع مضمون القرار(56). ولم يخفِ الإسرائيليون غضبهم من إهانة إيران للأيديولوجية المؤسِسة للدولة اليهودية؛ ففي الغداء الدوري (الذي يعقد كل شهرين) بين نوَّاب رؤساء البعثة الإسرائيليَّة والإيرانية في الأمم المتحدة في نيويورك، تكلم نائب السفير الإسرائيلي وتأكَّد أن زميله الإيراني فهم بوضوح الاستياء الإسرائيلي لتصويت إيران مع القرار(57).
ووفقًا لدبلوماسي إيراني عمل في حكومة الشاه، فإنّ التصويت الإيراني لصالح القرار «كان جزءًا من سياسة إيران للاقتراب من العرب من أجل تحقيق استقلالها ودورها القيادي»(58).
السفير فريدون هويدا، الذي شغل منصب سفير إيران لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت وقام بالتصويت لصالح هذا القرار، أكَّد أن تطلعات إيران للقيادة الإقليميَّة أدت دورًا حاسمًا في الجدل بين طهران وبعثتها في الأمم المتحدة فيما يخص القرار: «نظرًا إلى سياسة الشاه الساعية للهيمنة في الخليج الفارسي، لم يمكن أن يتهرب من هذا التصويت. إضافة إلى ذلك، فإنَّ سياسة إيران القياديّة حالت من دون الامتناع عن التصويت»(59).
Hamad.aleisa@gmail.com
- المغرب