هذان المصطلحان اللذان ظل أمر علاقتهما ببعض يَشغَلُ فكري من سنوات الدراسة الجامعية الأولى في مجال الفنون والتربية، حين كنت أعيش تفاصيل عدم تقدير جزء كبير من مجتمعنا لدور دراسة الفن التشكيلي على الفرد والمجتمع، حيث يرون أن دراسته مجرد مضيعة للوقت وفائدته لا تتعدى إنتاج أعمالاً جميلة، حتى أن البعض لم يكن يراها جميلة بل مجرد (شخبطة).
وفي الوقت ذاته كنت ألمس وأرى رأي العين، خصائص مميزة تُشع في شخصيات أغلب دارسي مجالات الفنون التشكيلية وتتطور مع تقدمهم الدراسي، كان أهمها: التعاطي مع المشكلات بطرق غير مألوفة وإيجاد الحلول المبدَعة لها.
تلك النظرة غير المنطقية من المجتمع تجاه الدراسة والتخصص في هذا المجال، مع ما كنت أراه من عظم تأثيره الإيجابي على الدارسين، كان دافعا لي لتبني مشروع صياغة الخصائص المميزة لدارسي الفنون التشكيلية، وشرح أسبابها والبرهنة عليها، ونشرها في أوساط المجتمع من خلال البحث العلمي كنقطة بداية لتعميق الوعي بهذا الجزء المهم من الثقافة.
وقد كان مدخلي في ذلك هو الربط بين عمليتي: «دراسة الفن التشكيلي والقدرة على حل المشكلات».
كانت خطة تدريس المواد العملية على سبيل المثال، في كليات الفنون في المراحل الجامعية والعليا، تتم من خلال وضع الطلاب في عشرات (المشكلات) خلال الفصل الدراسي الواحد، التي تتمثل في مرورهم بعملية إنتاج أعمال فنية، وفق أطر وعناصر وموضوعات وخامات محددة ومختلفة في كل مرة، وتفرض عليهم ضرورة حل هذه المشكلات بطرق خلاقة بعيداً عن التقليدية والطرق الروتينية وبإبداع وتميّز كونهم يتنافسون داخل بيئة زاخرة بالمبدعين. مبتدئين بوضع فرضيات للطرق المحتملة لحل المشكلة ثم اختيار أكثرها مناسبةً بعد التجربة والبحث والمناقشة واستشارة المختصين، ثم البدء بالتنفيذ، ولا تخلو هذه الفترة من التقويم المستمر للعمل وتعديله وتطويره ثم إخراجه والمشاركة في تقييمه النهائي.
والمرور بعملية الإنتاج الفني بذلك التنظيم وتلك الآلية بنجاح يقودنا إلى حقيقة أن دارس الفن التشكيلي هو بطبيعة الحال إداري ناجح، حيث لا يخفى على المطّلعين أن مصطلح «حل المشكلات» هو مرادف لمصطلح «الإدارة».
ومن يطّلع بشكل أوسع على الدراسات العلمية المتعلقة بالإبداع الإداري سيجد أن مقومات الإبداع الإداري العقلية والنفسية والجسدية، لا تختلف كثيراً عن مقومات الإبداع الفني كالحساسية للمشكلات، والطلاقة والمرونة والقدرة على الربط والتقييم... الخ، إضافة إلى عدد من المقومات النفسية والجسدية التي لا يختلف اثنان على أن دراسة الفن التشكيلي من المفترض أن تعززها وتنميها بشكل أكبر.
كما أن دارس الفن التشكيلي لا يقتصر في تطبيقه لحلول المشكلات التي تواجهه على الطريقة النظرية المجردة، كما يحصل مثلاً في عدد من الأقسام العلمية في كليات الإدارة التي قد تخرّج طالبي عمل يفتقرون للخبرة العملية حيث يقضون سنوات من الدراسة في تعلّم نظريات الإدارة دون تطبيقها بشكل ملموس في أرض الواقع.
ولعل الاهتمام بتدريس الفنون التشكيلية بالطرق الصحيحة في التعليم العام، سيكون بمثابة دروس تحضيرية ودعامة أساسية لتكوين شخصية مبدعة قادرة على حل المشكلات وإدارة المواقف المختلفة ابتداء من إدارة الأمور الشخصية: كإدارة الوقت والأمور المالية انتهاء بإدارة أمور أكثر تعقيداً وصعوبة كإدارة الموارد البشرية والقطاعات الحساسة في البلد.
-
محاضر تاريخ الفن – كلية التصاميم والفنون - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن