«هذا جميل ياله من نهار رائع!» ردد خالد
«لأفتح النوافذ كل النوافذ، هلّم يا عبير الربيع وزهور الياسمين إلي، يا رياح نيسان الحب يقترب والجميلة تدنو، اليوم نلتقي..
على فرس أبيض أحملك يا ملاكي أم سيارتي الزرقاء؟ - يضحك خالد في سعادة - لا بأس اليوم عهد الصناعة فلتكن هي جياد الحب، مرحى للقفص الجميل!».
سرح خالد في منتصف الاحتفاء بليلة خطوبته وتوقف قليلاً «لكن حبيبتي نسرين لم أعرفها قبل ذلك فكيف أكون روميو لجولييت وهي لم تصل إلى قلبي قبل ذلك..
آه هي حبيبتي ومشروع خطبتي وزواجي.. فلتعزف حكايات الهوى على قارعة طريقنا الذي ننشئُهُ الليلة.. الليلة السمر والحفلة».
تراجع قليلاً؛ «لكنه موعد تلاقي مع أهلها وسنحدد الخطبة بعد ذلك وعقد القران..
سعيد أكد لي موافقتهم وموافقة نسرين ولكنها ساعة تعارف لنمضي إلى معتقل الحب، آه يا معتقل الحب كم أنتظرك على لهف!
آه.. وصلت السوق.. لقد سرقت خواطري أميال الطريق..
هيّا يا مهرتي الزرقاء - يخاطب سيارته - سأتركك في هذا الموقف وأنتقل إلى محلات العطور.. هو ذلك مركز العطور المعروف، هدية لجميلتي وعطر يليق بي في بلاطها».
بنشوة اندفع خالد يكاد يقفز في خطواته من السيارة وحتى مركز التسويق، ينظر إلى شاشات العرض وإعلانات العطور ينما يتقدم نحو البوابة.. في لحظة سريعة مفاجئة اصطدم خالد بجسم بشري، ترنح وكاد أن يسقط..
توازن استعاد وقوفه وقد سقط هاتفه وميدالية المفاتيح التي كانت تتراقص في يده لكنه انصرف عنهما حين شاهد ضحية اصطدامه؛ شابة جميلة سقطت على الأرض وقبعتها الوسيمة وقد جُرحت بكدمة علت وجهها،شعر خالد بالحرج، حاول مساعدتها فأبت ومسحت دموعها وجرّت قبعتها مصدرةً أنيناً خافت لم يتبيّنه خالد؛ لكنه أظهر ألماً عميقاً في لحنه.
وقف أمامها مرتين كرر اعتذاره تمنى أن تشتمه، تسبه، فلتلعنه! لا يدري لماذا سوى أنه آذاها، وصوت أنينها المختلف وقرَ في أذنيه..
تأملها وهي ترحل عن بقعة اللقاء العنيف، ثم بدأ يستذكر من جديد مهمته التاريخية هدية لشريكة العمر القادمة وعطرٌ يتزين به لها..
دخل المحل بنصف عقل ونصف قلب وتوجه إلى منضدة العرض، جاءه البائع: «تفضل سيدي هنا عطور الرجال الجديدة» رفع غطاء الزجاجة ليرش العطر على طرف قميصه لكن خالد أشار له بالامتناع.
والتفت إلى عطور السيدات فجاءت البائعة سريعا: «تفضل سيدي عطر أتحب ان تهدي لأحد؟ تفضل!»
اقترب لكن العقل النصفي والقلب المنتصِف لم يحركاه..
هناك عاصفة ذهنية تضرب في وجدانه يحاول إيقافها لكن لم يستطع، الصورة الماثلة نحو الحسناء الباكية والقبعة الجريحة.
ماذا بي - رفع خالد صوته - هيّا فالأمضي لمهمتي وهزّ رأسه وكأنه في لحظة غفلة يريدُ أن يخرج منها..
التفت من جديد في منتصف خطوته..توقف..الصورة لا تغادره والساعة تتجاوز الرابعة وموعده مع مستقبله الجديد السابعة، غير أن هذا النوع من التفكير يُسقط عقارب التوقيت..
«حسناً سأمضي إليها وأكرر اعتذاري» خطاب النفس عاد ساخراً من جديد.. «سأمضي إليها.. من هي؟»
ومن تكون وأين ذهبت..حادثة اصطدام غير مقصودة بين عابِرَي طريق كلٌ ذهب إلى محطته...أين أجدها..ردد خالد لا أعرف لكن سأذهب.. لعلي أجدها فتسمع مني وتعذرني أو فلتشتمني المهم أن أُنهي هذا الصراع الذي يمزقني.. ولأجل ماذا؟! ردد خالد وهو يبتسم..
سريعاً، انعطف من المحل إلى طريق الحسناء الحزينة،اندفع بسرعة لكون فارق الزمن سيؤدي بالضرورة إلى ابتعادها, انطلق ماشياً ونظره ممتدٌ إلى الأمام، ليس لديه عنوان، فقط صورة الحسناء في وجدانه والقبعة والزهرة الممزقة..
عبَر إلى الرصيف الآخر.. أين هي؟
تسارعت نبضات القلب وخطوات الأقدام ومرةً أُخرى تساءل: «ويح قلبي لماذا أُضيع وقتي!؟»
في قفزه إلى الرصيف انتبه أنه لمحَ في الضفة الأخرى صورةٌ من الصورة»ما الذي رأيته؟ كأنّها قبعة,هل هي قبعة؟»
حسناَ سأعود إلى الرصيف الآخر..
آه.. هذا هو المقهى أين الزاوية التي لمحتُه.. هناك! نعم هناك!
يا إلهي أنها هي! نعم هي! فرحة تغشى قلبه دون مقدمات, ثم سؤال في الوجدان.. هيَ؟ من هي؟
عن ماذا أبحث؟ حسناً تذكرت لقد جئت لأعتذر وأنصرف..
لعلها توقفت في هذا المقهى بعد اصطدامي بها.. ثم تمتم بكلمات «كدمتُها ليست في وجهها إنما في قلبي»، ردد خالد: «قلبي! أيُّ عبثٍ أهذي به؟!».
كان واضحاً أنّ الحسناء رتبت ثوبها وأزالت بقع الرصيف، وأخذت ترتشف القهوة وتستريح.
جالت الفكرة في وجدان خالد وفكر لعلها هدأت الآن فستقبل عذري..
هيّ أيها المتصابي - ردد خالد وهو يسخر من مغامرته..
تقدم.. لكنه أيضا شد قميصه وعدّل ياقته.. ورتب هندامه ومظهره..
اقترب من منضدتها، وبعد توقف يسير:
«عفواً سيدتي.. عفواً.. أعتذر.. لم أكن أقصد كنت في عجلة من أمري».
ماذاّ لماذا لا ترد؟! لم ترفع النظر في وجهي.
يال استعلائهم!, «إنهم أولئك الأرستقراطيون!».. يصرخ خالد في وجدانه..
هكذا جرّبتُ كبرياءهم, لكنه تقدم خطوة فرفعت رأسها..
«اعتذر سيدتي..» كرر من جديد, «أشعر بالذنب لما وقع سامحيني».
رفعت عينيها إليه جيداً، وأشارت برأسها بقبول العذر.
هنا في لقاء العينين اختلفت المسافات, أصبح خالد في مرحلة برزخية لا يعرف كيف اجتاحته..
تراجع وصوت الموعد بدا ضعيفا.. آه الساعة الخامسة ساعتان فقط على موعدي مع سعيد..
لم أشترِ الهدية ولم أستعد للذهاب, حاول أن يرفع قدمه ويتقدم للخروج من المقهى..
لكن الأقدام لا تتجه إلا نحو طريق واحد، طريق عينيها..
مرة أخرى يحاول أن ينزع نفسَه فلأنطلق إلى موعدي..
أين قصة حبي التي نسجتها مع نسرين..
نسرين.. ليس لي قصة حبٍ مع نسرين!
لا أعرفُ ما هو الحب سوى أني قرأت مصارع العشاق بين عينيها..
هل بتُّ واحداً منهم..؟
يا للسخف تحدثه نفسه من جديد..
لكن إعياء حوار ذاته وحوار عينيها أرهقه..
اقترب من منضدة مقابلة وجلس إلى الكرسي..
ونادى «أيها النادل.. قهوة»
الجوال الصامت يتحرك ويرتفع رنينه..
آه إنه صديقي سعيد ابن عمة نسرين..
رد بتثاقل.. سمع صوت سعيد: «خالد عائلة نسرين تنتظرنا السابعة هذا المساء أنت جاهز.. أكيد.. ويضحك «أكيد..».
خالد يرد «أكيد أكيد».. سعيد يُعقّب «حسناً سأمُرّك الليلة ونذهب معاً فقد رتبت مع خالي».
سعيد قبل أن يغلق الهاتف, «صوتك لم يعجبني.. ما بك؟».
خالد : «لا شيء لا شيء.. إلى اللقاء».
كانت أعين خالد تُحدّق في الطاولة المقابلة، فجأةً التفتت الشابة نحو النادل وقرعت الفنجان ثم كررت القرع.. التفت إليها سريعا: «الفاتورة يا آنسة؟».. يسأل النادل، فأجابته بانحناءة رأسها..
خالد ساخراً في داخل وجدانه..
«آه.. يبدو أن هذا النمط الأرستقراطي يشمل الجميع وليس أنا فحسب».
ستُغادر؟ تساءل خالد، نعم ستُغادر.. الجوال يرن سعيد من جديد..
«لم يبق إلا 45 دقيقة على الموعد» تجاهله خالد ولم يرد، كل مجامعه انصّبت نحو هذا العنوان.. وقر في قلبه..
كيف ولماذا.. لا يعلم.. لكنه شعر بأنه باتَ أسيراً لقارعة الفنجان..
همّت بالمغادرة فتقدم إليها..
ابتسمت وحركت شفتيها، إنها تحيتُها لم أسمع صوتها لكن رنينها يخفق في قلبي..
يا الله.. ماذا بي وكيف سرقت قلبي..
انصرفت وهو متردد مضطرب.. كيف وأين..
لم أعرف عنوانها ومن هي.. تباعدت خطواتها وهو بين مخرج المقهى وبين مقعده..
يكاد يصرخ.. «توقفي أرجوك! كيف نلتقي؟!»
التفت بعد رحيلها بنصف قلب ونصف عقل لكنه هذه المرة بين خطوات طريقها وبين منضدتها وفنجان قهوتها..
تذكّر سريعاً آه النادل لا بد أنهُ يعرفها..
التفت إليه بعفوية وعجلة: «.. يا صديقي يا صديقي» اقترب النادل: «تفضل أيها السيد المحترم..».
«عفواً من هي.. ما اسمها.. أين تسكن؟!».
تواردت الأسئلة على شفتيه.. والنادل يسأل بهدوء «من هي؟».
«أين تسكن.. عمن تسأل يا سيدي؟»
خالد: «أقصدها هي.. صاح النادل: «من هي!»
آه.. صاح خالد: «قارعة الفنجان كانت على هذه الطاولة..».
ابتسم..
- «آه الآنسة صفاء».
- «قلتَ.. صفاء؟».
- «نعم الآنسة صفاء..».
- «نعم ذات الشابة التي قرعت الفنجان لك».
ابتسم النادل نعم هي..
الجوال يرن من جديد إنه سعيد..
خالد يردد «سعيد ليتك اليوم بعيد!» ثم يطفئ الصوت ويعود للنادل..
الآنسة صفاء صالح.. ابنة مدير الشركة التجارية خلف هذا المركز تأتي مع والدها تمارس بعض العمل في مهامها بالشركة وتأخذ قسطاً من الراحة في المقهى..
شابةٌ مهذبة وخلوقة أعرف والدها..
خالد يضحك: «يبدو ذلك لكن ما هذه الطقوس لماذا لا ترد علينا بحديث.. ولماذا لا تناديك.. هل هذا من طقوس أسرتها الغنية؟».
ابتسم النادل: «صفاء؟»
خالد : «نعم, صفاء قارعة الفنجان»..
ضحك النادل وقال: «سيدي إنها بكماء لا تنطق!».
- «ماذا.. بكماء؟!»
- «نعم بكماء..»
قارعة الفنجان بكماء..!
عاصفة تنطلق في عمق الوجدان.. حسناءُ قلبي.. بكماء..
لكنها نطقت وتحدثت فلم يستمع قلبي لمثل حديثها قط..
هل أنا معلق بها..؟
بين ثلاث ساعات أصبحت ضحية قارعة الفنجان..
لن يكذب قلبي..
صوتٌ من الخلف وراء الوجدان.. إنها نزوة.. فاستيقظ أيها الأحمق..
سريعا يتلاشى الصوت ويعود مزمار الفنجان..
عفواً يا صديقي.. سجّل لي اسم الشركة وأين موقع مكاتبها بالضبط..
كتب النادل العنوان، اندفع خالد خارجاً, فإذا به يرقبها إنها هي..
تشاغلت كأنها تنظر إلى المحل المجاور.. وقد كانت تسترق النظر إليه..
إنها هي!، خالد ينادي.. يتقدم نحوها..
جوال سعيد يرن من جديد، توقف خالد، حمل الهاتف..
«أين أنت؟! إنها السابعة والربع!» سعيد يردد بانفعال
- «آسف يا سعيد.. كنت مشغولاً..».
- «حسناً انزل من الشقة أنا في انتظارك..».
- «لستُ في الشقة».
- «ماذا تقول؟!».
- «سعيد آسف الغ الموعد لقد صرفتُ النظر..».
- «يا مجنون!».
يضحك خالد ويحدث نفسه: لقد عرفت الآن لماذا أسموه قيس المجنون..
«آسف سعيد سأُنهي المكالمة ألغ الموعد..».
أقفل الهاتف وصوت سعيد يصرخ «يا مجنون! أضعت الموعد!».
خالد يردد بهدوء «إنه موعد السماء ربط قلبي بقارعة الفنجان..».
تقدم بهدوء.. رفعت بصرها على استحياء.. ثم توارت بوجهها سريعاً عنه بخجل.. كأنها لم تكن تراقبه..
فناداها: «صفاء!».. تسمّرت العينين.
وهنا توحّد القلبين جسمٌ من نصفين..
رفعت رأسها مندهشة.. كيف عرف اسمها..
لكنها كانت في ذات الرسالة المجنونة.. بهدوء قال لها عرفت اسمك وعرفتك.
أدركت المغزى, «أريد عنوان المنزل».
بين الحياء والخوف والارتباك.. نظرت إليه.
«صفاء لا تسيئي فهمي، أريد أن ألتقي أباكِ، أنا خالد محمود, السيرة الذاتية أسيرٌ لك يا حبيبتي.. قارعةُ الفنجان».
انتهى.