بعض المصطلحات تستخدم من قبل شرائح واسعة من المجتمعات ولكن من دون تحديد معالم واضحة وصريحة لها. وذلك لأن المصطلح ينشأ في ظرف تاريخي واجتماعي محدد وينخرط كوسيلة أداة في الصراع الاجتماعي العام فيكتسب معاني متعددة خلال الحقب التاريخية المختلفة.
لنتناول مثلا مصطلح الليبرالية لنسلط الضوء على تاريخيته ومعانيه:
نشأ مصطلح الليبرالية من الكلمة اللاتينية (Lybrus) أي حر بموازاة كلمة (Slave) أي عبد (مملوك) إبان الفترة الانتقالية من العبودية إلى النظام الملكي الإقطاعي. والليبراليون هم الفلاسفة والمفكرون ورجال الدين الذين نادوا بتحرير العبيد.
جرى ذلك في أوروبا بثورات العبيد المشهورة، التي أجبرت الأنظمة الثيوقراطية (اتحاد السلطة السياسية بالدينية) قسراً للتحول إلى الأنظمة الملكية الإقطاعية وفصل الدين عن الدولة وتحرير العبيد.
كانت ثورة سبورتاكوس الروماني (109-71 ق.م) وهو العبد الرقيق الذي تزعم أول ثورة للعبيد في التاريخ. تلك الثورة التي انطلقت منها المفاهيم الأولى والأساسية للحركة الليبرالية. وقد اتسعت لتشمل تحرير الإنسان من العبودية في العمل والفكر والسياسة والدين والمجتمع. وقد تبنت الأديان هذا المنحى، فقد نادى السيد المسيح بتحرير العبيد، كما امتلأت الأحكام الفقهية الإسلامية بالحكم المعروف (عتق رقبة).
إذاً، كان المفهوم الأول لليبرالية هو التحرير واستمر كذلك حتى القرن الثامن عشر, عشية الانتقال من الأنظمة الإقطاعية المطلقة الصلاحيات إلى الأنظمة الرأسمالية، فاكتسب معاني جديدة على يد الفيلسوف البريطاني جون لوك, الذي أسس الحركة الليبرالية الأوروبية والتي نادت بدستورية الدولة والديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والسوق الحرة والملكية الخاصة.
تبدو هذه المطالب كثيرة ومتشعبة، ولكن إذا ما تناولنا الجذر الأساسي لكل هذه المطالب، وهو مأسسة الدولة، أي دولة المؤسسات ذات الصلاحية التي تشمل الاقتصاد والتشريع وحرية السوق والاعتقاد وحقوق الفرد المدنية وتداول السلطة اعتماداً على الانتخابات الحرة النزيهة ومراقبة السلطة التنفيذية (الشفافية) وحرية الكلمة ودحر الفساد الإداري والسياسي. نجد أن هذه المطالب تتلخص في جذر واحد هو توزيع السلطات. إذاً الليبرالية في عصرنا الحديث هي مأسسة الدولة، فهل يستخدم المصطلح بهذا المعنى؟ الجواب يكون بسؤال آخر، من الذي يستخدم المصطلح وبأي هدف؟
هناك من يستخدم المصطلح كموقف مضاد للدين، بالرغم من أن الأديان نادت بالليبرالية أي التحرير، وهناك من يضمنه معنى لا يمت له بصلة، أي يدعو إلى (اللا موقف)، وهذا ترويج رخيص كي يبرر موقفه المتخاذل في الصراع العام، ولكن عدم اتخاذ موقف هو موقف بحد ذاته، وهو يخدم في النهاية جهة واحدة من القوى المتصارعة، وهو بالتأكيد لا يخدم القوى الشعبية التي أسست الليبرالية نفسها.
توجد حاليا مصطلحات مرادفة أو موازية لليبرالية مثل النأي بالنفس والوسطية وما شابه. ما معنى ذلك؟ وما المقصود منه؟ عندما توجد قوتان متضادتان?? لا يمكن إيجاد وسطا بينهما، لا وسطية في صراع محتدم، فأنت إما أن تكون أو لا تكون كما قال شكسبير. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالوسطيون يقدمون أنفسهم كبديل للصراع العام، أي تكون السلطة عندهم وليتوقف الجميع عن الصراع وهذا مستحيل.
- الدمام