-1-
في هذا الزمن المكفهرّ، حيث التناحر يمتدّ ويطول، والحبّ يتلفّع بالزيفِ ويأخذ شكلَ الرشوة، يضطرّ المرء إلى البحث عن أنفس سوية، تنطوي على قلوب خضراء وألسنة ندية، تقول الخيرَ فإن أعياها مالت - مع الطهر - إلى الصمت الطهور...
بهذه الأنفس النورانية يحلق المرءُ بأجنحته في السماء، يذرعها غيمة غيمة، يأخذ من سعتها سعة عقله وصدره، ومن تنوّع موادها ومعانيها قابليةَ العيش في الظرف الضاغط، وبين الأطياف المختلفة...
لقد أساء بعضُ المثقفين استعمالَ سمات المثقف (ومن أهمها النزعة النقدية)، فانتفشت فيهم الأنا، وانشغلوا بخلق الله حتى كادوا يؤلّهون ذواتهم..، مارسوا تحت الشمس الكذبَ والتدليس، وواجهوا الحق البيّن باللهو واللعب، وزايدوا على انتماءات الناس، وما فتئوا يحرّضون على المختلف ويطبّلون للشبيه وللصدى، بل ربما أصابت بعضَهم عدوى المرحلة، فحشروا أنفسهم في صفّ كئيب، فلا يؤمنون ولا يقولون ولا يفعلون إلا من خلال وسيط، يحدد لهم صور الغواية والرشاد.
خلف هذا الاستقطاب المشين، سوّق بعض المثقفين خطاباً عدائياً، يضع القطيعة فوق الصلة، والاستعداء قبل الاستعداد، ويفرش العقبات في الطرق الموصلة إلى الالتقاء أو الارتقاء...، وربما تجلى هذا الخطاب للراصد الدقيق سلطة غاشمة أكثر منه مادة للتنوير، وحين تسأل الجناة لمصلحة من؟.. يجيبون ولهم وجيب: «لله ثم للتاريخ والوطن» ...!!
-2-
بإزاء هذا الخطاب الذي يفرّق ولا يجمع، ويحتفل بالإدانة أكثر من البراءة أو التبرئة يقف خطابٌ آخر في الظلّ والصمت، يسعى ما أمكنه إلى تجنب حالة الاستقطاب، ويحاول ما استطاع ردم الهوة، وملء الفجوات...
في هذا الخطاب تغيب الثنائيات، وتنصهر الذوات والمعاني والأشياء المختلفة في مرآة واحدة بحجم هذا الوطن، يرى فيها كلُّ طرف صورته دون أن يشعر بهزيمة أو انتصار، ويعود منها دون أن تلاحقه أوهامُ «الترقب»، و»المراقبة»، و»الاستهداف»، و»المؤامرة» و»الإطاحة»...
يغلّب هذا الخطاب الجليل قواسمَنا المشتركة، ويجعلها منطلقَا رئيساً إلى الحديث عن نقاط تمايزنا في الأفكار والانتماءات والسلوك؛ لكنه يعود منا إلى الظلّ والصمت؛ لأننا استبدلنا به الذي هو أدنى، واخترنا لأنفسنا مشايعة الضجيج!!
-3-
يمكن أن أضرب مثالاً على صنّاع هذا الخطاب الجميل بالأستاذ حمد القاضي، فهو - بإجماع المتابعين - أحد المثقفين السعوديين، الذين عرفوا - منذ بداياتهم - بالصدق والإخلاص والحبّ والوفاء، والرغبة في التواصل والتكامل، والترفع عن حظوظ النفس وانكسارات السياق...
عدّ الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - حياءَه ووفاءَه مفتاحَين لشخصيته، واختصره د.عبد العزيز الخويطر في عفة اللسان، ونزاهة القلم، والسعي إلى الإصلاح، والرغبة الدائمة في التواصل مع الآخرين.. وهو في نظر أجيال شابة شخصية نادرة الوجود؛ يطغى جانبها الإنساني على جوانب كثيرة في حياتها الشخصية والمهنية - كما يعبّر الكاتب خالد السليمان -.
لقد نجح القاضي في الوقوف على مسافة واحدة من الأقطاب المتصارعة في التسعينيات، وقد حاول - وقتها - ترميمَ جسدنا الممزق، لكن حيله عجزت فسلَّم أمره إلى الله ورجع، رجع ولسان حاله: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}...
وجدته مسكوناً بالوفاء، حفياً بمن قضى نحبه أكثر ممن ينتظر، يتتبع جمائلهم فينشرها، ويترك ما ساءه منهم إلى رب غفور رحيم.. لقد كان يكتم حبه عن كثيرين؛ خشية أن يقال أحبّ ليأخذ؛ لذلك تمدّد بعد موتهم، ونفّس عن حبه المكبوت بكتب تتسع مادتها من طبعة إلى أخرى..
كنتُ أتحدث إليه - قبل سنتين - عن إمكانية الخروج في حلقة تلفزيونية عن القصيبي - رحمه الله -، فوجدته حفياً بالمبادرة رغم اختلافنا على الزمن، ولأنه لم يستطع الانتظار أخذ يحدثني عن الراحل.. لم يكن حديثه عن «العصفورية» ولا عن «يافدى ناظريك» وإنما كان حديثاً من قلب صادق عن حياة صادقة.. تركته يهطل مثل المطر، وتركني أستقبله كالمستسقي من بعد قحط عنيد.. دمعته هي التي وضعت النقطة، وهي التي جعلتْ تسليمَه عليّ وداعاً.
هذه الدمعة العابرة (بالحسّ أو المعنى) هي التي تبعث في ضمير المثقف الحياة، وهي التي تعيد إليه إنسانيته في زمن الرقص على جثث الضحايا، وهي التي تجعله قريباً من الناس في زمن تجلى فيه المثقفون جزراً معزولة وسط بحار هائجة...
-4-
في شهر رمضان الماضي حلّ القاضي ضيفاً على برنامج «في الصميم»، واستفتح إجابته عن السؤال الأول بقوله: «مخرجات خطابنا الثقافي لا ترقى لمستوى تحديات الوطن»، قالها وكأنه يتنفس بها بعد كتمان طويل.
يرى القاضي أنّ خطابنا الثقافي قد أخطأ الطريق، وأنه أضحى عقبة في طريق التنمية بعد أن كان الداعمَ الرئيس لها، وبدا منزعجاً منه وهو يراه ينشغل عن المفاصل بالتفاصيل، ويعرش على جدران الهوامش أكثر من المتن...، وربما خالف السائدَ حين اتهم الخطاب الثقافي بالوقوف ضد المرأة، بسبب انشغاله بتفاصيل تفتح أبوابَ المشكلات ولا تغلقها، ومطالباته بصور يمكن تأجيلها ثم تأجيلها، وأقرّ - وهو مسكون بالوجع - بأن جزءاً من خطابنا الثقافي يمارس إقصاءً عنيفاً، وأنه في وقت حواره مع الآخر أقصى أمة من الناس تقاسمه قيمَ الدين واللغة والوطن..
وحين تجرأ الزميل عبد الله المديفر وسأل: «أنت تقف في منطقة رمادية، تحاول أن تكسب الجميع، لكنك في المنتهى تخسرهم جميعا..» تأخر القاضي في صناعة الإجابة ثم قال: «أزعم أنني قد كسبتُ أحداً إلا إذا كنتُ مخدوعاً.. أنا وسطي معتدل، أنتقد لكنني لا أمسّ شخصاً، ويكفيني من الناس من يريد الوسطية والاعتدال...».
هي إجابة مختصرة، رسم بها القاضي وجه المثقف الغائب والمثقف المنتظر، ووضع بها قاعدة عملية لإزاحة الخدعة التي تقف بينهما، خدعة الخطاب الذي يتغيا السلامَ من وراء إشعال الحروب، ويبحث عن الحبّ في خرائب الكراهية...
القاضي مدرسة، ولكن أين طلابها؟!
@alrafai
- الرياض