(أ)
كلّ شيء يسقط في مواجهة الضرورة، وما تعتبر محظورات دينيّة أو أخلاقيّة تتحوّل بالضرورة إلى مرتبة دون الضرورة، ويصبح تجاوزها أمراً مرخصاً دينيّا وأخلاقيّا، ويبقى القانون متردّداً في مسألةٍ: إن أجازها جرحَ طبيعته القانونيّة وإن اعترضَ عليها وقف خصماً للحالة المسؤولة عن نشأته، فكيف يكون خصماً لوجوده، أليست الضرورة أمّ القانون! فلا شيء يعلو فوق الضرورة عند الضرورة.
من هنا فإنّ الوعي بالحالات التي تفتح أبواب الضرورات كما هي مسألة سياسيّة وأمنيّة، كذلك هي ضرورة ثقافيّة في مواجهة العلاقة بين الاستبداد والواقع لكيلا يفرض الاستبداد واقعه بحججٍ يمكن تفنيدها ومقاومتها وإزالتها أيضاً، وهو دور يمارسه اليسار الجديد على مستوى العالم في مواجهة وتفكيك أيّ غايات رأسماليّة مختلقة تحت منطق الضرورة، إن كانت في مسائل داخليّة أو خارجيّة.
وهذا لا يعني أنّ (الميكيافليّة) انتهت ولم تعد تأتي ثمارها في عصر الاتصال، ومشاعيّة الاطلاع، واليسار العالمي، والمشاركة الجماهيريّة المؤثّرة على صناعة القرارات السياسيّة، والضرورة الثقافية للمثقّف، بل انتقلت إلى طور جديد يحتاج إلى تبرير الغاية أمام قوّة ضغط مؤسّسات المجتمع المدني الأهلي وربطها بالضرورة قبل تبرير الوسيلة، لأنّ الضرورة سبب الغاية، وأيّة غاية لا تكون ناتج ضرورة فلا شيء أخلاقيّاً يبرّر وسيلة تحقيقها إذا كانت تخالف الضبط القانوني والأخلاقي. إذاً، الضرورة تبرّر الوسيلة لغاية هي ناتجة عن ضرورة؛ وتأتي الإشكالية في ضابط الضرورة: مَنْ يحدّدها، من ينتقدها، من يختبرها، من يكشف وجودها من زيفها؛ (هل كان الربيع العربي ضرورة؟ هل تفضي هذه الضرورة إلى تغيير في الواقع؟ هل الديمقراطيّة ضرورة في دولٍ ليست على أسس المنظومة الديمقراطية، لا اجتماعيّاً ولا سياسيّاً؟ هل الضربة التي تُدبّر ضدّ سوريّا غاية ناتجة عن ضرورة فلا خيار غيرها؟...) هي أسئلة (الضرورة الثقافيّة) التي بإمكانها نقد وتفكيك الضرورة وإعادة ضبطها، وعدم ترك المسألة لعبة بيد الأقوى ليختلق غاياته دون نقد أو شكٍّ. إذاً: فالضرورة الثقافيّة هي القادرة على نقد الضرورة السياسيّة وضبط الحالة التي تستدعي خضوع التشريعات والقوانين تحت (بند الضرورة).
لذلك فإنّ مقولة: (الغاية تبرّر الوسيلة) ناقصة دون معرفة مصدر الغاية، فإن كانت الغاية اضطراريّة اضطرابيّة وليست أهوائيّة ذات أجندة فئويّة، حينذاك يسقط التبرير والتعليل وتباح الوسائل جميعاً دون مساءلة أخلاقيّة أو قانونيّة، فإذا كانت الغاية نتيجة ضرورة كانت هي المبرّر والمشرّع؛ وصحيح أنّ الوعي الإنساني يبدأ بالوسائل المضبوطة أخلاقياً وقانونيّاً، لكنّه إن تعثّر فإنّه يتجاوز القوانين والأخلاق تحت تبرير الغاية الاضطراريّة. وهنا تأتي ضرورة المثقّف في تفكيك حجّة الاستبداد، فإمّا ضرورة مختلقة فيكشف زيفها، أو حالة ضرورة مؤقّتة إذّاك تكون أسئلة الضرورة الثقافيّة: متى تنتهي الحالة/الوقت؟ ما هي خطّة الخروج منها؟ من المسؤولون؟ والإصرار على أنّها حالة مؤقّتة وليست وضعاً دائماً. فالغاية الاضطراريّة: هدف يتجاوز الضبطين الأخلاقي والقانوني، وهي ناجمة عن ضرورة لعجزٍ تامٍّ عن إيجاد غاية أخرى أقلّ تجاوزاً وضرراً. وتأتي الضرورة الثقافيّة في نقد هذه الغاية وتفكيك تأثيرها ومؤثّراتها وفحص واقعيتها.
(ب)
إنّ تنفيذ قوانين العقوبات أمر لا بدّ منه لحظر مجموعة من الأفعال يُظنّ بها الإساءة لحريّة الإنسان وأمنه وعرضه وماله، لكنّ وجود القوانين وتنفيذها لا يحدّ ولا يحظر تلك الأفعال بنسبٍ عالية ما لم تعالج (الظرفيات - الضرورات) التي هيّأت منطق الضرورة وأحكامها، وهو ما أسمّيه (تخفيض معدّل تضخّم الضرورة) فكلما زاد هذا المعدّل ابتعد الإنسان عن مدنيّته وإنسانيّته الواعية ومكتسباتها القانونيّة وعاد إلى شريعته الأولى تحت سطوة الضرورة.
والمسألة هنا: أنّ أيّ فعل يُراد حظره أو تجريم مرتكبه فإنّه يحتاج إلى مجموعتين من الإجراءات:
(أ) سُفلى: وهي قوانين العقوبات، (ب) وعليا: وهي التربية والتأهيل وإيجاد بيئة تقلّص مبرّرات ممارسة الفعل المحظور.
ولأنّ ارتفاع معدّل تضخّم الضرورة تدفع باتجاه تجاوز العقوبات والمضي قُدماً في المحظورات، إذّاك فإن محاصرة الضرورة تمنح قانون العقوبات قيمة أعلى من وجود القانون في بيئة تسيطر عليها ضرورة القيام بالفعل المحظور؛ وشيءٌ من هذا يمكن توصيفه على (برنامج المناصحة) مثلاً، بغض النظر عن نتائجه وآليّته إلاّ أن الأساس فيه هو وعي المشرّع وإدراكه بالإجراءات العليا وعدم الاكتفاء بالإجراءات السفلى المتعلّقة بالعقوبات دون تأهيل البيئة والعقل في محاصرة الضرورة التي نشأ فيها التطرّف. (هل كانت المناهج التعليميّة مسؤولة؟ هل كان إطلاق الإفتاء على عواهله؟ هل كانت مسألة أفغانستان والدعم السعودي لها؟ هل ثمّة إخلال في الموازنة بين الدين والدنيا؟...) والأسئلة كثيرة، إنّها عقلانيّة السلطة في مراجعاتها وتحمّلها المسؤولية، وجميع تلك الأسئلة تندرج تحت التفكير بتحمّل المسؤولية لتمكين الإجراءات العليا القادرة على محاصرة الضرورة والحدّ من ظهورها مرّة أخرى. حيث إنّ كلّ سلطة مسؤولة عن سنّ وتنفيذ قوانين تردع ما تقتضيه الضرورة من إفرازات، هي أيضاً مسؤولة عن معالجة الظروف والاضطرابات التي تنشأ منها الضرورة، ولا يكفي العمل بوظيفة دون الأخرى، وإلاّ وقع ظلم كبير على الناس وتضخّم الاستبداد، فلكي يكون التشريع قوّةً في الواقع ينبغي أن يكون الواقع في حالة تتقبّله وتستوعبه، هكذا نفهم مثلاً: (تعطيل تشريع حدّ السرقة في عام المجاعة)، لأنّ الخليفة عمر رصد تضخّم حالة الضرورة فتحمّل مسؤوليتها بوصف السلطة مسؤولة عن معالجتها، وهو ما عجزت عنه السلطة في عام المجاعة فتعطّل التشريع أمام منطق الضرورة. وأنت لا تفهم كيف يغفل الساسة الغربيّون المعاصرون عن الضرورة عند التعامل مع عودة القرصنة على سفنٍ تتبخْتَرُ بكنوزها أمام شواطئ يموت فيها الإنسان جوعاً في الصومال.
(ج)
حينما تُعلّق الأحكام الدستوريّة في دولة ما ويُشرّع الأقوى الغالب الاحتكام إلى الأحكام العرفيّة، فيما يُسمّى حالة طوارئ، فإنّما نحن –هنا- نتحدّث عن العودة للاحتكام لمنطق الضرورة، ممّا يجعل الأفراد يواجهون حكومة لا تحتكم إلى تشريعات وقوانين، بل شرّعت تجاوزرها علناً تحت ذريعة الضرورة؛ فإن كانت الضرورة بين الأفراد تقع ضمن المقبول والمعقول الذي يُحتوى ويُنظّم وفقا لقوانين وضوابط توازن العلاقات بين الأفراد، والتي من طبيعتها التوتّر والتصادم، وهو ما قاد إلى وجود سلطة ودولة للاحتكام إليها؛ وكذا الحال بالانتقال من الفرد إلى الكيان، فإنّ الحالة الطبيعيّة بين الكيانات/الدول ممثّلة في التصادم والتوتّر إذّاك تكون (ضرورة) طبيعة العلاقة منتجة للتشريعات والقوانين التي يراد لها أن تضبط هذه التوتّرات وتعقلنها، وهو ما يقود إلى وجود مركز قوي دولي وكيان دولي يراد له أن يكون مرجعيّة لدول العالم. فإنّ كانت الضرورة بين فرد وفرد تفضي إلى وجود سلطة وكيان، وبين كيان وكيان تفضي إلى بروز مركز وهامش، فإنّ الضرورة بين الكيان والأفراد تفضي إلى تغيير شكل العلاقة بين الطرفين، وهي من الخطورة أنّها تهدّد الكيان والفرد معاً وهذا مخاطر حالات الطوارئ، وهو ما يمكن معاينته والمصادقة عليه في أيّ دولة تشهد اضطرابات سياسيّة واجتماعيّة تأثّراً بتوسّع حكم الضرورة من جهة المواطنين ومن جهة ممثّلي الكيان.
كم هي الغايات التي طرحها الربيع العربي؟! وكم من ضرورة ثقافيّة لتفكيك هذه الغايات وإدراك مصادرها وأيّة ضرورة أفرزتها: (ضرورة اضطراريّة اضطرابيّة أم ضرورة نفعيّة حتميّة، أم ضرورة مختلقة سياسيّاً لأجندة فئويّة وأخرى أجندة خارجيّة..) الاحتمالات عديدة، وتبقى الضرورة الثقافيّة ضمانة توازن بين وجود الاستبداد وإمكانية التخفيف من نسب استحواذه على السلطة وتعطيله لفرص التداوليّة السياسيّة والإصلاح، الذي أثبت الربيع العربي بفوضاه وعنفه ونزعته الإقصائيّة والتقسميّة أنّنا بحاجة إليه، لا على المستوى السياسيّ والفكر الديني فحسب، بل على المستوى الثقافي أيضاً.
- جدة