يُبنى وعي الأفراد في المجتمعات الدينية؛ أي إيمانهم بقبول الأشياء أو رفضها، أو إيمانهم بضرورة تحديث أفكارهم وأفعالهم وأدوات تقويمهم، أو إيمانهم بالإضافة والحذف، على ما ما يُسنّ به معلوم المعروف ومعلوم المنكر؛ أي الدين والعرف والقوانين والأنظمة الرسمية، وكما قلت في المقال «جدلية المعتقد» ليس دائماً اختياراتنا وقراراتنا وفق ما نعتقد إنما وفق السنن النهضوية والتداولية والتفاعلية التي تحافظ على سلمية نهضة المجتمع.
وذلك التفاعل المستمر مع السنن النهضوية في ظل الجمود الذي يسنه معلوم المعروف ومعلوم المنكر غالبا.
- وذلك الجمود - هو الذي يُنشئ إشكاليتهما مع العوامل النهضوية.
ووفق ما أعتقده إشكالية قد يسأل البعض هل تؤثر ثنائية «المعروف والمنكر» في سعة أو ضيق القابلية النهضوية لتطور التمثيلات الحياتية لأي مجتمع؟
وهل تلك الثنائية تملك التدخل في تشكيل قابلية المجتمع لأشكال التطور أو لتمثيلاته؟ أم أن المجتمع يستطيع ضبطها بحيث لا تتحول إلى إعاقة في سبيل القابلية النهضوية؟.
مع المحافظة على درجة مقبولة من ما تعتقده تلك الثنائية بما لا يضر بمصلحة عامة أو حرية شخصية، «فلا ضرر ولا ضرار» هو تقدير للذهنية المؤثرة على سبيل «فرض الكفاية».
وتحديدي «للتمثيلات» لا يركز على جانب»التفكير الطقسوي» لتلك الثائية وإنما يقدمها على ما سواها لأولوية تأثيرها في فكر وسلوك مُحرّك تلك الثنائية.
كما أن اهتمام تلك الثنائية بجانب «نمذجة التمثيلات»؛عادة ما يكون هو مأزق القابلية النهضوية من عدمها؛ لأن حكم «الجواز» مرتبط دائماً بالمقاربة الشكلية لأصل النموذج، كما أن حكم»التحريم» مرتبط هو أيضاً بالمقاربة الشكلية لأصل النموذج، مما يحبس معايير قيم تلك الثنائية داخل «لعنة الشكل» وفق تأثير أصل تأسيس أحكام تلك الثنائية.
والتمثيلات هي الشكل الذي يُقدم من خلاله العامل النهضوي أو التعايشي أو التشاركي.
ولا يغيب عنا أن تقديس «أصل نموذج الشكل» دون مضمونه هو دائماً أصل إشكالية الفاعل النهضوي مع تلك الثنائية.
أعود إلى مسألة التأثر والتأثير ما بين المجتمع وثنائية «المعروف والمنكر» التي طُرحت من خلال سؤال فاتحة الموضوع.
إن مبتدأ الحديث عن هذه المسألة هو «حدود تأثير تلك الثنائية على المجتمع».
يتشكل تأثير الأفكار والمفاهيم على أي مجتمع من خلال «مناصرة الأغلبية» لمحتوى تلك الأفكار والمفاهيم، وهو محتوى غالبا ما يتعلق بالقيم أكثر من فاعلية الإنتاج أو الإضافة، فالمجتمعات وخاصة الدينية تميل في اختياراتها للأفكار والمفاهيم ما يعزز «سلامتها الأخلاقية» أو يروّج لمصلحتها الدينية أو التاريخية وفي المقابل فهي ترفض من الأفكار والمفاهيم ما يهدد شكلا أو مضمونا «سلامتها الأخلاقية» أو مصلحتها الدينية أو التاريخية.
والمقصود «بالسلامة الأخلاقية» كل الأفكار والمفاهيم التي تحث على فعلية أو سلوكية تّدرج ضمن منظومة الخير والحسن والمقبول أو الشر و المرفوض والسيئ والمُعزّزة للخصوصية الدينية أو المحذرة من معارضة الخصوصية الدينية والتاريخية للمجتمع.
والذي يُشرع اجتماعيا في ضوئها قانوني «الإثابة أو العقاب».
وبذلك يخضع فاعل «المؤثِر» المطروح من خلال الأفكار والمفاهيم إلى «الخصوصية الدينية والتاريخية «للأغلبية مما يجعل تلك الخصوصية مصدر من مصادر»ثنائية المعروف والمنكر».
ويقوى أو يضعف «مؤثِر المعروف والمنكر» حسب قربه أو بعده عن مركز تلك الخصوصية، والتي تنتج بدورها مراتب المعروف والمنكر التي ذكرتها في الجزء الأول من هذا الموضوع.
وقد يُدهش البعض من مسألة إذا كان المجتمع هو الذي «يختار آليات تعزيز وتنفيذ سلطته» فكيف تتحول تلك الآليات إلى فاعل سلطة يتبعها المجتمع؟.
إن «القديمية» غالبا ما «تصنع التاريخ»؛ وهو ما يفسر لنا كيف تتحول «آليات تنفيذ السلطة» إلى «فاعل سلطة». فالمجتمعات جزء من التاريخ وليس التاريخ هو جزء من المجتمعات.
إن خاصيتي «الحركة والتصاعد بالنمو والترقي» التي يتميز بها أي مجتمع، هي التي تحول «آليات تنفيذ سلطته» التي تتصف «بالثبات»، بالتقادم إلى فاعل سلطة؛ لأنها تصبح حينها ضمن الخصوصية الدينية والتاريخية مما يجعلها فاعل اختيار للمؤثِر الجديد.
وهو ما يعني أن آليات تنفيذ السلطة الناتجة عن اختيار المجتمع لها في ضوء ثباتها وحركة المجتمع وتصاعدها تتحول تلك الآليات إلى فاعل سلطة، وعليه سنستنتج أن الخصوصية التاريخية والدينية الممثلة لفاعل سلطة المجتمع في أصلها «آلية تنفيذ» أصبحت بالتقادم فاعل سلطة تؤثر في حركة سلطة المجتمع.
إن سلطة المجتمع تتشكل من خلال ثنائيتي «الاتفاق الجمعي» و»الرأي العام».
«يمكننا القول إن المجتمعات وخاصة المجتمعات الدينية تخضع لنوعين من القوانين؛ القوانين الرسمية التي تشمل العقوبات والأنظمة، وقوانين «الاتفاق الجمعي والرأي العام».
وثنائية المعروف والمنكر هي جزء من قوانين الاتفاق الجمعي وقد تُصبح من مؤثرات تشكل الرأي العام.
وعلينا في هذا المقام ان نفرق بين «الاتفاق الجمعي» والرأي العام» ودور ثنائية المعروف والمنكر في فاعلية سلطته.
فالاتفاق الجمعي يُبنى من خلال منظومة الخصوصية الدينية والتاريخية للمجتمع وهو بذلك يتصف بالثبات والتأثيرية؛ لكنها تأثيرية تُلزم ولا تحكم.
ويتمثل الاتفاق الجمعي أو يُنفذ من خلال «الوعي العام» لأفراد المجتمع، الوعي الذي قلت في مطلع هذا الموضوع بأنه هو إيمان أفراد المجتمع بقبول الأشياء أو رفضها ، أو إيمانهم بضرورة تحديث أفكارهم وأفعالهم وأدوات تقويمهم، أو إيمانهم بالإضافة والحذف.
وبما أن ثنائية المعروف والمنكر ضمن مصادر الخصوصية الدينية والتاريخية التي تُشكل الاتفاق الجمعي، فهي بذلك من قواعد تشكيل الوعي العام.
في حين أن الرأي العام يبنى من خلال حالة طارئة تنشأ نتيجة تجاوز أو تحد لمصادر خصوصية الاتفاق الجمعي؛ وبذلك يمكن أن يصبح تجاوز الوعي الخاص أو النهضوي لمصدر تلك الثنائية سبب صراع يُنتج الرأي العام.
إن الصراع الذي تقوده سلطة ثنائية المعروف والمنكر غالبا هو حاصل أمرين؛ التصادم مع الوعي الفئوي المتجاوز الوعي العام والتصادم مع الوعي النهضوي، مجموع الأفكار والمفاهيم والأشكال الجديدة التي تتجاوز الوعي العام.
ونأتي الآن إلى الشق الثاني من سؤال فاتحة هذا الموضوع هل يستطيع المجتمع التحكم في سلطة هذه الثنائية؟
إن قوانين «الاتفاق الجمعي» لا تستطيع أن تُصبح مُشرِعا؛ أي لا يمكن أن تتحول أعرافها إلى قوانين تُوجب العقوبة الرسمية، وإن كانت حينا عندما تتحول إلى «رأي عام» قد تسهم كضاغط على «المُشرّع».
وبالتالي فإن سلطة ثنائية المعروف والمنكر لا تستطيع تجاوز قانون العرف الذي يُلزم ولا يحكم في ضوء وجود قوانين وأنظمة رسمية تسيطر على تلك الثنائية وتضبطها، لكن القوانين والأنظمة الرسميتين ليست كافية لترقي الوعي العام ، فليس المطلوب فقط ضبط تلك الثنائية بالقانون الرسمي لنحقق نهضة الوعي العام إنما الأهم إعادة بنائها لتعديل سلطة الاتفاق الجمعي.
وهذا لن يتحقق إلا في ضوء فرض استراتيجية بناء نهضوي لمصادر نشأة الاتفاق الجمعي وهذه مسألة تتضمن قولا آخر.
- جدة