عندما التقيت به أول مرة على الطبيعة مباشرة في معرضه الذي أقامه مع زميله بهرام حاجو في قاعة حوار عام 2006م.. لم أتفاجأ بما تحمله عيناه من تعب الغربة، ومعاناة النزوح عن الوطن، والعيش في أمكنة لم يكن راغبا فيها، ليس كرها لكنه الهاجس الكبير للوطن، الأصل (سوريا) وقريته (تل نايف) التي تسكن وجدانه، وتتربع في عقله، وتمتد في كل جزء من جسده، التي هرب منها جسدا قسرا ويهرب إليها خيالا ووجدان، ليرسمها ويبقيها، انتماء قائما إلى يوم أن تقوم الساعة..
لم أستغرب نظراته التائهة الباحثة بين الوجوه الكثيرة، لعله يجد بينها وجها من وطنه. تزاحمت وتكاثرت بكل تنوعات جنسياتها، عشقا وحبا لإبداع شاهدوه عن بعد واليوم أصبح أمام ناظرهم، إبداع عربي أصيل قدر له أن يحط رحاله في دول غربية..غريبا.. بعد أن كاد يوأد في مسقط رأسه (إنسان) ومسقط رأس (الإبداع) فن وعطاء إنساني.. نثر في الغربة رحيق عطره في كل الأعين وأبقى الإعجاب في الذاكرة العالمية، دون أن يشعر أي من هؤلاء أو أولئك المعجبين به، أن بين الألوان والخطوط آلاما وغصة مزجت بالدموع، رسم الحرية معلنا معارضته، ألوانا وسبل تعبير، استحضر إيحاءاتها من واقع معاش بالنسبة له، سبق بها زمن.. وأعاد أزمان، فجعل من تلك اللوحات أداة.. حرب ضد الظلم والقهر.. وقف بها جنبا إلى جنب مع الرشاش والبندقية.
هذا هو عمر حمدي الفنان الذي هجر وطنه مكرها لأنه يبحث عن الحرية، وتحمل من أجلها الكثير من وجع الجسد وآلام القهر، تحدث في أمسيته التي تبعت افتتاح المعرض وأجاب عن الكثير من الأسئلة التي جمع الحضور بعض من حقيقتها قبل المجيء فتوالدت منها أسئلة واستفسارات أعمق وأبعد مدى نحو البحث عن قصته مع إبداعه ومع الغربة.
البداية أصل المعاناة
قال عن معاناته إنها كانت مأساوية من بدايتها منذ أن أقام معرضا له هو الأول والأخير في سوريا تلك الفترة من حياته، حيث حمل لوحاته بعد نهاية هذا المعرض وشعوره بالإحباط نتيجة أمور كثيرة أهمها استباقه لزمنه على عربة إلى أطراف دمشق شكل منها كومة ليسهل إعدامها ثم أشعل فيها النار، مختتما تلك المرحلة بإحالتها إلى رماد.
اتجه بعدها إلى بيروت، بوابته إلى الهرب نحو الغربة، بجواز سفر مزوّر، على ظهر سفينة صيد، عاش وقتها مشاعر متضاربة بين الإحساس بطعم الحرية وبين الخوف من المجهول ليدخل في عالم جديد من المنافسة والبحث عن سبل تحقيق المكان والمكانة في ساحة فنية مخيفة في بلاد يجهلها ويحتاج إلى فترة للتأهل والتأهيل فيها فكانت «فيينا» المحطة الأولى، وبعد مشوار طويل اختار له اسم (مالفا) كقناع أصبح مطلبا للعيش في ذلك العالم سنين كثيرة وأوجاعا مميتة وإبداعا يعيده إلى الحياة كلما شعر بقرب رحيله.
وليوم أصبح مالفا أو عمر حمدي علامة بارزة في الغرب وفي الوطن العربي اسما وإبداعا وخصوصية أحال فيها لوحاته إلى قصص وروايات وبلل من أجلها أدوات رسمه في دموع مآقيه ودعمها بنبضات قلبه حظي بعدها بعضو الاتحاد العام للفنانين النمساويين وجها لوجه مع: كوكوشا، هندرفاسو، راينر، نيتش، فوكس، فورنر، وتسابقت عليه العروض وأصبحت تلك الأعمال في أهم وأكبر قاعات العرض العالمية منها غاليري فرانكلين شتاين في برلين وغاليري فندلي في نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وبالم بيج في باريس، وغاليري آرت فوروم للفن المعاصر في فيينا، وصالات عرض أخرى متفرقة.
من أقواله
اللون.. اللون..كل شيء هو لون.. يولد مع فتحة العين وينتهي في المكان الذي ولدت فيه, كانت الفراغات اللونية كبيرة, تتحرك مع غبارها رقع لون صغيرة من ثياب وسجاد ولحف, وكأنها إيحاءات لصدى قديم, نخشى على غيابها..
هذه البصمات الملونة احتفظت بها, لأنها كانت الوحيدة التي تملأ عيني, هذا التراث البصري لا يزال في أعمالي رغم السنوات الطويلة والغياب الكبير.
إلا أن اللون يبقى حتى اليوم كلما بدأت أواجه المساحة البيضاء, متاهة كبيرة, متاهة الخبرة والإضافات الجديدة, شيء غير قابل للانتهاء, لا شيء ينتهي, كذلك اللون, هذا السر الأبدي للحياة, سر لا يمكن الوصول إليه بدون أن تمنحه كل ما عندك.. وأبعد من ذلك.. اللون هو قدري وبه أتحول إلى الجدارة بالانتماء إلى هذا العالم.
الأمكنة, البلدان, كانت إشارات كبيرة, رافقتني منذ تعرفي على نفسي بأنني سأكون رساماً, لأن ولادة الاغتراب في داخلي, كانت هي المحرض الأساسي, للهروب والكشف.. لأن العالم كبير, ولأن الفن يحمل غناه من حجم هذه التجربة, تجربة السفر واكتشاف الاختلاف..
لن أكون يوماً سجيناً لتجربة أو اتجاه تشكيلي محدد يقول فيه البعض إنني هكذا.. بل أنا الكل والكل أنا»..
أخيرا..
الحديث عن الفنان عمر حمدي وبهذا الإيجاز والاجتزاز لتاريخ طويل أعادتني إليه المشاهد المؤلمة التي تحدث للشعب السوري من قصف وتهجير، وما كان يتحدث به الفنان عمر عن مواقف مشابهة في زمن مضى تتكرر اليوم وبتعميم أكبر على جسد الأرض السورية، لقد كان لمرسم الفنان عمر ومعارضه لحظات من تلك المواقف فأنتج منها لوحات تحمل عناوين جديدة وقديمة أو العكس، منها لوحة (الدم السوري) و(تنظيف) و(ساحة المعركة) و(شظايا) و(النهر الأحمر) و(تعرض للتعذيب) و(الحرية) و(مقتل) و(نهاية العالم)، عناوين لروايات كتبت بالألوان فجاءت معبرة وكاشفة لواقع الحال إلى كل الأعين والضمائر في العالم.
monif@hotmail.com