رغم أن الطوائف الإسلامية ليست جديدة بل هي ممتدة خلال قرون طويلة متعاقبة شهدت خلالها فترات هدوء وتعايش وتعاون، وفترات أخرى من الصراع والتنافس وربما الاحتراب. ورغم أن العمل العلمي يحترم وجود هذا الاختلاف إلا أن وجود السياسي المستبد في الطرفين يجعل من وجود الطائفة مجالاً خصباً للأطماع التوسعية ولاستخدام الطائفة في المشاريع السياسية الصرفة.. فالسياسات التي لا تقوم على أنظمة شعبية مشروعة تلجأ لبديل عقدي/ طائفي تستر بها عورتها السياسية وفقرها الاجتماعي.. ولذلك أبوالعلاء المعري وهو الفيلسوف الذي قرأ في فلسفات عربية مختلفة وصنفته على أنه من أكثر الأدباء معرفة بالثقافات والطوائف كان يراقب هذه الطوائف والمذاهب الدينية.. وأبدى بعض آرائه التي جعلت بعض النقاد يصفه بالزندقة.. بحكم تأثره بالقراءات الفلسفية المختلفة لسائر الطوائف.. المهم أن شيخ المعرة هذا درس المذاهب ولخص أسباب نشوئها ووجودها في بيت واحد قال فيه:
إنما هذه المذاهب أسباب... لجلب الدنيا إلى الرؤساء
فبعد مراقبة حثيثة اكتشف أن هذه المذاهب يستعملها الرؤساء لإعطاء المشروعية من جهة ولدعم الأطماع التوسعية من جهة أخرى.. وهنا لم تكن فقط «الطائفة».. بل تحولت لطائفية.. ولم تكن «الجدال العلمي».. بل «الجلاد السياسي».. وهذه الطائفية صارت ظاهرة يسعى من خلالها طرف لا لنقد الطائفة الأخرى علمياً أو نقاشها (فلطالما كان النقد العلمي والنقاش والاختلاف أمراً مشروعاً وصحياً) بل الاحتراب معها سياسياً لكي يعطي نفسه بالتالي مشروعية مضمرة بوجوده داخل إطار طائفته التي أوهمها بعد طول مراس أن وجودها من وجوده وحياتها من حياته.. فكرست الطائفية نفسها للاختصام مع الطائفة الأخرى و»بيان عورها» و»فضحها» في لحظة معينة حينما يحس المستبد الطائفي بالحاجة إلى الاستعانة بهذا الحشد الطائفي ليبرر سياساته الخاصة والظالمة.. وضمن هذا الخطاب المشوه وداخل بيئته نشأت الطائفية التي لا تستطيع التعايش مع المختلف القريب فضلاً عن المختلف البعيد.
هذه الممارسة الطائفية ظاهرة معهودة وليست جديدة ففيها قامت حروب أهلية طويلة وصراعات تنافس وقوى.. لكن الظاهرة الجديدة هي الطائفية المضادة. الطائفية المضادة بدأت من «نقد ذاتي» مشروع للطائفة ومن محاولة لكشف سلبيات داخل الطائفة للشخص نفسه ثم تطورت مع الوقت لتأخذ طابعاً هجومياً على أهل طائفته وتبريراً للطائفة الأخرى في ممارسة قد يستعمل فيها أدوات علمية أو تاريخية أو غيرها.. فهي تتجاوز النقد الذاتي ومحاولة القراءة العلمية والموضوعية، وتنتقل من «نقد الذات» إلى «مقت الذات» أو ما يسمى بكره الذات «self-hatred». مقت الذات أو هذه الطائفية المضادة تستعمل نفس أدوات الطائفية التقليدية في استخدام الطائفة وأسلحتها وأدواتها وتاريخها للتوظيف السياسي.
الطائفية المضادة هي تبرير الظلم والبخس والعدوان والاستبداد وقمع الحريات من الطائفة الأخرى، بينما يتم إدانة كل هذه إذا صدرت من داخل الطائفة.. والعنصر الجامع بين الطائفية والطائفية المضادة هو فقدان (الاطراد) أو الاتساق الموضوعي بين المواقف والأحداث المتشابهة.
الاتساق.. هو اتخاذ موقف أخلاقي واحد من جميع عمليات الظلم والبخس والحرمان والقمع الأمني بغض النظر عن طائفة الفاعل أو المفعول به لأن العدل قيمة مطلقة تجب لكل أحد في كل حال وموضع وزمان ومكان.. وهذا ما أخفقت فيه الطائفية التي تدين البخس من الطائفة الأخرى وتبرره لنفسها، وما أخفقت فيه أيضاً الطائفية المضادة التي تبرر البخس لطائفتها وتدينه لغيرها..
الطائفية المضادة قد تبرر أعمال الطائفة الأخرى بأعذار مختلفة بينما تغيب كل هذه الأعذار لطائفتها.. وليس الغرض هنا محاولة الحد من حرية قراءة التاريخ الغابر والمعاصر ومسائله.. بل هو تسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية/السياسية المعاصرة المتعلقة بالتعامل مع موضوع «الطائفة».. ولأنه في الواقع والتاريخ وطوال قرون ممتدة بقيت هذه الطوائف الدينية حاضرة ومؤثرة فليس في قدرة أحد إلغاء هذه الطوائف جملة واحدة أو جعلها جميعاً طائفة واحدة فإن من الأجدر الدعوة إلى قيام ميثاق عدالة يحمي الإنسان نفسه ليس بناءً على طائفته بل بناءً على حقه في العدالة التي لا تشترط لوناً أو جنساً أو مذهباً أو حتى ديناً.. فابن تيمية قدم مثالاً عملياً على الدفاع عن قيمة العدالة المطلقة هذه حتى لغير المسلمين فما بالك للمسلمين في قصته حين حكاها بنفسه فقال «وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلوا شاه وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى هؤلاء أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون. فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نفتكهم ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة وأطلقنا من النصارى ما شاء الله فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله» (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 28: 616)
وأخيراً.. قيمة العدالة يستحقها كل إنسان دون شرط من دين أو مذهب أو عرق أو لون أو جنسية فالله سبحانه فرض العدل حتى تجاه المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم وقاتلوهم فقال «ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».
abdalodah@gmail.com
أمريكا