(أ)
الفردُ أصلٌ في فرادة الإنسان، والفرديّةُ سِمةٌ ظاهرةٌ فيه، وبها سُمّي إنْسٌ ظاهرٌ، لأنّها حاضنة الإدراك، ومنتجةٌ ما يؤكّد حضوره، ومُوجدة لأثر الروح ومنظومات الوعي وتعدّده وقابليّته للتطوّر؛ أمّا الجماعات فأصلٌ في الحيوان، فلا ميزة للجماعة أنّ تكون أصل في الإنسان وموجدة لفرادته وفرديّته، فالقطيع في المواشي والأضاميم في الطيور والأرتال في النمل..، والجماعة لا تكون دون تطوّر أفرادها، وحتّى تتكوّن فلا بدّ من اتّحاد أو تجمّع أفراد.
وقد يبدو التصدير مقبولاً ومألوفاً في قيمة الفرد غير أنّه يتوارى ويكاد لا يبين ضمن الجماعة وقيودها، لأنّ الفرد يظهر ويحضر خارج (قوسيّ) الجماعة حينما يتجاوز الحواجز التي تعيقه من استخدام ذكائه وفرادته المجبولة فيه؛ لأنّ طبيعة الفرد لا تُحدّ بسقف معيّنٍ حين تُرفع عنها المحظورات.
ولعلّ العوائق إذا كانت لصيقة بظروف البيئة تكون أهون على الفرد من عوائق تفرضها الجماعة على أفرادها؛ لأنّ حرّاسها على دراية أنّ الفرديّة التي كانت سبباً في تأسيس الجماعة قادرةٌ على تعديلها أو تبديلها؛ لذلك تضغط العقليّة -المُدرّبة على تطرّف الثنائيّات- للمفاضلة بين: (الكائنيّة الجماعيّة وبين الفرديّة)؛ وأزعم أنّ هذه المفاضلة طرف في الإشكال إذ تُختزل تداوليّات الحقيقة من سعة التعدّد الاختياريّة إلى ضيق الجبريّة في الحقيقة النهائيّة بين اختيارين يدمّر أحدهما الآخر؛ فلَكَم تتضاءل الذكائيّة الإنسانيّة عند حشرها في محتملين وإلغاء أيّ محتملات أخرى.
وهذا التغييب للمحتمل الثالث الذي يتحرّر من جبريّة المفاضلة بين: (إمّا الفرديّة أو الجماعيّة) هو ما ترتكز عليه (الحقيقة النفعيّة النهائيّة) لحرّاس الجماعة المتمثّلة في تثبيت إيجابيّات للجماعة تُعلي من شأنها كضمانة لوجود أتباعها، وتثبيت سلبيّات للفرديّة تحطّ من قيمتها بالنواقص وبالعيوب؛ فلا قوامة صالحة ضمن هذه الحقيقة النهائيّة إلاّ للكائنيّة الجماعيّة ذات الكامليّة المستقرّة؛ فأيّ حمولات ثقيلة يتحرّر منها وعي الفرد إذا ما أزاح عن عقله جبرية المفاضلة وحواجز الجماعة ليكتشف في نفسه خصائص القوّة والاستقلال والمسؤوليّة، وليكتشف عندها وهميّة «الحقيقة النهائيّة»، وأنّ سيولتها وتداوليّاتها أساس في وعي العالم والإنسان. فالحقيقة النهائيّة أساس في تأخّر الجماعات والأفراد لأنّها تعيق طبيعة التغيّر والتطوّر وتتجاهل قوانين الصيرورة والسيرورة.
من هنا تعدّ هذه الحواجز وقائع انقلابيّة على طبيعة الفرد تمحو وجوده وتثبّت توظيفه تابعاً وجزءاً مرهوناً بحكمة الدائرة المزوّرة: «لا وجود للفرد دون الجماعة»، وهي المضادّة لأبجديّات الإنسان البسيطة: «أنّ لا وجود لأيّ جماعة دون أفرادها»؛ فلماذا يفرّط الأفراد أنفسهم بهذه الأبجديّة ويقعون تحت طاغوت المفاضلة بين (إمّا الجماعة أو الفرد؟) وهي المأزق الذي يضطرّ معه الفرد لتزوير رؤيته عصمة لتبعيّات المفاضلة وخشية الانتباذ، وتحت أسباب غياب المحتمل الثالث ومافوقه، وهو ما تسعى إليه الفرديّة الذكيّة بوصف استقلالها لا يعني تهديداً للجماعة، كما يحصرها إرهاب الجدليّة السياسيّة والدينيّة: (معنا أم ضدّنا؟!)
فالفرديّة الذكيّة: هي قدرة الفرد على تجاوز معوقات وتأويلات الثقافة المتعلّقة بالخصوصيّة والتحرّر من شريط البرمجة السياسيّ الديني لإنتاج الإنسان الذكي، فبينما كان الذكاء حكراً على العلماء العلميّين، فإنّه اليوم مشاع متاحٌ ومباحٌ. والذكائيّة: قضاءٌ شخصيّ في الأفعال والأشياء يفصلها عن الدعاية السياسيّة والاجتماعيّة، ولا ترضخ لما يسمّى بالحقائق النهائيّة، وهي ما يؤهّل لعودة وانتشار الفرديّة الذكيّة، وحينما نقول (عودة وانتشار) فلأنّ الفرديّة الذكيّة صانعة التاريخ القديم والحديث، لكنّها كانت دائماً محصورة على الندرة بين كبار المصلحين والعلماء إلاّ أنّ عصر التقنيات الذكيّة جعلها طيّعة في متناول أفراد الشعوب، وهذا ما يمكن تسميته: (بمشاعيّة الذكاء).
(ب)
في التاريخ الدينيّ، وحين دراسة ما دوّنه عن سيرة النبي إبراهيم عليه السلام، فإنّ التعلّم الذاتي كان طريقه إلى الفرديّة الذكيّة تحرّراً من أغلال المجتمع عبر العقل والبرهان والقوّة والإرادة والشكّ والاطمئنان؛ وقد قدّم في صراعه مع المجتمع نموذجاً فريداً للفرديّة الذكيّة، ممّا أهّله في المتن القرآني بمفرده وفرديّته أن يكون (أمّة) على دلالة المقصد النموذج وعلى دلالة المعادل للمجتمع ومافوقه ويفوقه.
وحينما يرد في المتن القرآني في مواضع عدّة (ملّة إبراهيم حنيفاً) والميم واللام في اللغة تقليب الشيء، والحنف في اللغة الميل، فاسألهم: عن ماذا مالَ النبي إبراهيم (ع)؟ عن كهنوت المجتمع وأوهامه وأغلاله، (فاسألوهم إن كانوا ينطقون). فالإبراهيميّة أعلى مرحلة في الفرديّة الذكيّة التاريخيّة، التي تواجه العقل الاجتماع ي سلماً، وتلوذ بالهجرة إن تأثّرت مساعيها السلميّة، فالأرض واسعة، والبلاد المستبدّة فكرة وثنيّة كبرى.
(ج)
وتاريخيّاً أيضاً، كان للفرديّة الذكيّة نصيباً في نشأة الجماعات، وإليها ترجع ثورات الخروج من جماعة وتأسيس أخرى؛ اعتماداً على حالة (ما بعد الثقافة): وهي الحالة المسؤولة عن الخروج من ثقافة إلى أخرى، وتخطّي قيودها وحواجزها، وهذا التخطّي لا يمكن إلاّ بقدرة الفرديّة الذكيّة، حين تقلّب أبجديّات ثقافتها بين الجوهر والأصل لمعرفة إمكانات تعديلها أو الخروج عنها. هكذا، دار مسار التاريخ من طور الأساطير-الماورائيّات إلى طور الديانات والفلسفات بفضل الفرديّة المستقلة في الأنبياء والمصلحين والفلاسفة في ممارسة (ما بعد الثقافة) خروجاً عن مألوفيّة الثقافة الأسطوريّة السائدة: وتأسيساً لثقافات وكيانات ذات تشريعات وقوانين مختلفة؛ بيد أنّ المجتمعات التي تشكّلت بعدها، كانت تعود إلى استبدادها في العصمة الشكلانيّة للكيان الجماعي وليس لعصمة المضمون الفردي.
أمّا طور العلم والحداثة، فإنّما شهدت الإنسانيّة فترة (ما بعد ثقافة) مهّدت لظهور الفرديّة العلميّة التي مارست خروجاً عن أطروحات الفكر الديني في تفسيره لظواهر الكون والطبيعة والإنسان؛ فما كان التغيير من مجتمعات دينيّة إلى مجتمعات علميّة إلاّ بوجود علماء الطبيعة والمادة العلميين، ولقد تعرّض هؤلاء لاضطهادات في ممارساتهم لفرديّتهم العلميّة المستقلّة التي أدّت للخروج عن فكر الجماعة ونقض الحقيقة النهائيّة إلى (فكر ما بعديّ) ما كان يمكن أن يتحقّق إن استسلم أفراد الجماعة للعقل الجمعي المستقرّ، فالاستقرار لا ينتج تطوّراً كما يفعله التقلّب والحنف والميلان، كما أنّ الشكّ والارتياب لا يكون في الجماعة التي تربطها العادة والعكوف بل تكون في الفرديّة، والشكّ روحُ المعرفة. وشيءٌ من هذا يتقاطع مع مدلول المقولة المنسوبة للنبيّ العربيّ عليه السلام: (العلماء ورثة الأنبياء).
فإن كانت الإنسانيّة في المدوّنة التاريخيّة للوقائع والأحداث قد مرّت بثلاثة أطوار: (الأسطورة، الدين، العلم) وكان يتخلّلها دائماً فترة يظهر فيها أفراد يؤسّسون للانتقال من طور إلى آخر حتّى تظهر ملامحها كاملة على الغلبة، فإنّ هذه الغلبة لا تخلّص المدوّنة التاريخيّة بإزالة ما قبلها نهائيّاً. فالفرديّة البدائيّة الذكيّة تؤسّس لطور الأساطير في ابتداء معارفها وأعمالها في ضبط سلوك الإنسان باتّجاه بيئته وأنسنته، والفرديّة الدينيّة الذكيّة للأنبياء والمصلحين أسّست لطور الدين في تقليص غيبيّات وخرافات الطور السابق والمزاوجة بين العلوم البدائيّة والماورائيّات، وكذلك فعلت الفرديّة العلميّة الذكيّة الممثّلة بالعلماء حين أسّست لطور العلم والحداثة. فما استطاع طورٌ أن يطمس ما سبقه إلاّ على غلبة الشيوع والانتشار. والإنسانيّة اليوم خرجت من العلم التقليدي إلى العلم الذكي- من الصناعة إلى التكنولوجيا، ومرّة أخرى يعود السبب للفرديّة المستقلّة، بحيث إنّنا لا يمكن أن نقصي أفراداً مثل: (بيل جيت مؤسس مايكروسوفت، ستيف جوبز مؤسس أبل، لاري بايج وسيرجي برين مؤسّسا قوقل، مارك زوكربيرج مؤسس الفيس بوك، وجاك دورسي مؤسّس تويتر، وغيرهم) من الفرديّات الذكيّات الذين يؤسّسون اليوم لمرحلة ما بعد العلم، ولطور تغلب فيه الذكائيّة-الفرديّة الذكيّة على المجتمعات، لا على معنى تأسيس بديل إنّما على معنى الخروج من العوائق التي تحدّ منها، لأنّ غلبة الفرديّة على الكيانيّة لا تكون على دلالة الانشقاق والتدمير إنّما على فاعليّة الاستقلال، وما قد تقدّمه الفرديّة الذكيّة من إنتاج ماديٍّ يُضفي حضوراً وحضارةً.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة