وما زالت معاناة نقدنا المعاصر مستمرة، وإذا أطلقتُ العنان لليراع ليخط كل مشكلاته فلا أحسبه سيتوقَّف؛ وإذا كانت الأجزاء الثلاثة الماضية قد كشفت عن مشكلات تتصل بالمنهج والمصطلح والتطبيق فإنَّ هذا الجزء سيتوقَّف عند اللغة التي يُكتب فيها هذا النقد، والشكل الذي يتم من خلاله تقديمه إلى المتلقي، ولا أحسب أنَّ هذه المعضلة ستخفى على من له أدنى اطلاع على نقدنا المعاصر الذي أضحت لغته من وسائل تعميته، ومن أبرز أسباب غموضه وتعقيده والتنفير منه وعنه.
إنَّ من يطالع مشهدنا النقدي المعاصر، وتتهيأ له الفرصة لقراءة اللغة التي تكتب بها كثير من الممارسات النقدية، سيُصدم بما سيلاقيه آنذاك، إذ إنَّ اللغة التي تُقدَّم بواسطتها القراءة النقدية للنص الإبداعي تتلبس بالغموض الشديد، وتتسم بالتعقيد العقيم، وتتبرأ من أي معنى للوضوح أو السهولة، وتجد المتلقي المسكين يرهق نفسه ويجهد فكره في محاولة استيعاب شيء من عملية التفسير التي يفزع إليها حين تتزاحم لديه الإشكاليات التي تحيط بالنص الإبداعي، ويشتد مستوى الضبابية الذي يلف أجزاءه ويتراكم حوله، والمصيبة أنه بعد كل هذا لا يكاد يخرج بشيء، بل إنَّ التعقيد يزيد، والغموض يتعاظم، ويصبح حاله كحال المستجير من الرمضاء بالنار، فلا هو استفاد، ولا هو استمتع، ولم يجنِ غير ضياعٍ للوقت والجهد، في الوصول إلى اللا وصول.
لقد أصبحت القراءات النقدية المعاصرة مستودعاً للعديد من الألفاظ الغامضة، والمفردات الغريبة، والكلمات التي لم يسمع بها عربي، ومكاناً للكثير من الأساليب المعقدة، والتراكيب التي ما سمع بها السابقون ولا اللاحقون، بل إنَّ الأمر تجاوز ذلك إلى أن تكون الممارسات النقدية ساحات واسعة للتنافس في ابتكار تلك الألفاظ والأساليب، ومكاناً أمثل لعرض آخر صور الهذيان وأحدث مشاهد السفسطة التي يزعم أصحابها أنهم يسلكون الطريق الصحيح والسبيل الفني والعلمي لتقديم تفسيرات تعين على إدراك الدلالات المختبئة وراء النص الإبداعي، ومن دونها لا يمكن للمتلقي أن يفهم المراد منه.
إنَّ اللغة النقدية التي يتم بواسطتها إيصال تفسير النص الإبداعي إلى القارئ، ويتم عن طريقها التواصل بين المبدع والمتلقي قد أضحت في نقدنا المعاصر مجموعة من الطلاسم والخزعبلات التي يعجز الكاهن عن فكها، والساحر عن تأليفها، ولو كان المقام يتسع لذكرت العديد من النماذج التي تكشف للقارئ عن ماهية تلك اللغة، والألفاظ التي تكونها، والأساليب التي تتألف منها، حتى يعي فعلاً الغموض الذي أقصده، والتعقيد الذي أعنيه.
لقد تحولت هذه الممارسات النقدية عن وظيفتها الرئيسة التي تركز على تفسير النص الأدبي وتقديم الدلالات المختبئة التي يحملها إلى القارئ -المتلقي، وتفسير الصور الفنية والمعاني الخفية، وعرض كل ذلك بأسلوب سهل وألفاظ واضحة، يمكن من خلالها إيصال فكرة النص ودلالاته وفك شفراته للقارئ الذي يتعامل مع هذا النص الإبداعي، ويقع اختياره عليه للغوص في أعماقه وسبر أغواره.
ولا شك أنَّ الدرجات المعرفية للمتلقين تختلف، والمستويات الثقافية لهم تتفاوت، وقد يظن البعض أنَّ الأمر على هذا الأساس سيكون صعباً؛ لأنَّ الحكم على اللغة النقدية بالغموض في ظل هذه الرؤية سيكون متفاوتاً من قارئ لآخر، وبالتالي ربما كانت الإشكالية ليست في لغة القراءة النقدية، وإنما في المتلقي نفسه الذي لم يستطع أن يصل إلى مستوى القراءة؛ لأنه لم يمتلك الأدوات المعرفية والثقافية الكافية التي تؤهله لاستيعاب تلك القراءة، وبالتالي خروج اللغة النقدية بريئة من هذا الغموض الذي نتهمها به هنا، وحصولها على صك البراءة من التعقيد والإبهام الذي يردد حولها.
والحقيقة أن هذه الإشكالية ربما تعرض في حالة كنا نتحدث الغموض العادي، والإبهام النسبي الذي يمكن أن يتجلى بامتلاك الأدوات المعرفية والثقافية اللازمة، وينكشف بزيادة التأمل والتدبر لهذه القراءة، ومحاولة إجهاد الفكر قليلا لاستيعاب المقصود منها، ولكننا نتحدث هنا عن الغموض الذي يصل إلى أعلى درجاته، والإبهام الذي يبلغ أقصى غاياته، حيث لا يمكن حينها فك رموزها وطلاسمها -إن افترضنا وجود شيء وراءها- مهما وصل القارئ إلى درجة عالية من العلم والمعرفة، ومهما بلغ مرتبة مرتفعة من الثقافة اللغوية والملكة النقدية والأدوات الفنية.
@ @ @
وختاماً.. هذه بعضٌ من مشكلات نقدنا المعاصر، عرضتُ بعضها وأعرضتُ عن بعض، وليت نقادنا يعون خطورتها، ويستوعبون الأثر السلبي الذي تحدثه في هذا الفن الإبداعي، حتى حولته إلى علم نظري يتلبَّسه التعقيد، ويحيط به الغموض، ويخلو من أي نوع من أنواع الجمال، وبدأ يُنظر إليه على أنه مجموعة من الفلسفات والمنطقيات والمصطلحات والقواعد والنظريات التي يتلاشى أمامها كلُّ ذوق مرهف، ويتهاوى عندها كلُّ جَمالٍ لِهذا الفنِّ البديع.
Omar1401@gmail.com
الرياض