تعود نشأة نظرية الخلق إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا مع بروز دعوة «الفن للفن» ونشأة الإستطيقا الحديثة، ومناداة أندرو سيسيل برادلي إلى «الشعر للشعر» وانهمار عديد من الأعمال التشكيلية الطليعية إضافة إلى صعود المذهب الرمزي في الشعر، وتناثر وجهات طليعية أخرى في غيره من الفنون الأدبية. وذلك قبل أن تصعد الشكلية الروسية خصوصاً في مرحلتها الأولى (1914- 1925م) لتعمِّق المعنى الأدبي في خصوص شكله الذي يصير به أدباً بمعزل عن مؤلِّفه وعن الواقع الخارجي أو المعنى. وهو المؤدَّى الشكلي نفسه الذي شاطرتها في الاندراج فيه -من بعد- الوجهة النقدية التي اصطُلح على تسميتها بالاسم الذي عنون به أحد نقادها وهو الناقد الأمريكي جون كرو رانسوم كتابه عنها «النقد الجديد» الصادر عام 1941م، وقد امتدت في الفترة من العشرينات إلى الخمسينات الميلادية من القرن العشرين، لتفيض أبرز أطروحاتها في بريطانيا وأمريكا بالتركيز على العمل الأدبي في ذاته. ومن هنا كان اسم «الخلق» بديلاً للتعبير والمحاكاة والانعكاس، في امتلاك منطق نظري يحيل على الخلق الأدبي أو الفني للعمل، أي إلى الابتكار التكنيكي الذي يصنعه المؤلف فيه، وليس إلى علاقة بينه وبين مؤلفه أو بينه وبين الواقع الخارجي الذي يصوِّره.
لكننا سنجد الجذور الفكرية والفلسفية لنظرية الخلق، والإستطيقا الحديثة، مثلما وجدنا جذور نظرية التعبير، في الفلسفة المثالية الذاتية لدى كانت (1724- 1804م). وأبرز الجذور المتصلة بأطرحة نظرية الخلق في فلسفة كانت فَصْلُه بين الجميل والمفيد، وهو فصل أفضى به إلى الاهتمام بخصائص العمل الفني في ذاته، وحسبان كل عمل فني وحدة جوهرية ذاتية ينحصر فيها جماله، وتنحصر فيها الغاية منه، من دون النظر إلى مضمونه أو علاقته بما هو خارج عنه. ولذلك امتاز الحكم الجمالي لدى كانت عن الحكم العقلي والحكم الخُلقي، بأنه صادر عن الذوق صدوراً لا تدفع إليه منفعة بحيث تتطلب التملك كما في اللذة الحسية أو تحقيق الموضوع كما في الرضا الخلقي. ويضاف إلى ذلك أنه حكم يرضي كل الناس، إلا من شذ، دونما حاجة إلى أفكار عامة مجردة. ويسلمنا ذلك إلى ما يسميه كانت «الغائية من دون غاية» وهي خاصية الجمال التي تحيله إلى غاية لموضوعه بحيث يكفينا إحساس المتعة به عن السؤال عن الغاية من ورائه. وأخيراً فإن الحكم الجمالي لدى كانت ليس نتيجة قياس منطقي أو نتيجة تجربة وإنما هو نتيجة إدراك ذاتي، ولكنه -على الرغم من ذاتيته- يغدو موضوعياً إذا ما أخذنا في الحسبان عمومه لدى ذوي الأذواق.
هكذا يصبح جمال الوردة أو التفاحة المرسومة قيمة فنية مستقلة عن أن يشتهي المدرك لجمالها، من وجهة فنية، تملُّكها أو شمَّها أو أكْلها أو بيعها إلا في اللحظة التي يفارق فيها الصفة الفنية الجمالية فلا يغدو موقفه عندئذ -وما يصدر عنه من أحكام- موقفاً فنياً جمالياً، بل موقف تاجر أو جائع أو جشع أو حسي...الخ. وجمال الوردة أو التفاحة المرسومة ذلك، لا يروق واحداً بمفرده ولا مجتمعاً أو حقبة بل هو موضوع جمالي لرضا كل الناس. وهذا الرضا لا يكمن في ما نريده أو نتوقع وجوده من غاية وراء موضوع اللوحة الجمالي، لأن حكمنا عندئذ يغدو حكم الغاية المرادة أو النافعة التي نتصورها لا الحكم الجمالي. ولن يقول أحد إن حكمي على جمال هذا الرسم صادر عن قياس منطقي أو برهان تجريبي كما في أحكام العلوم الطبيعية والرياضية والمنطقية، مثلما لن يقول أحد إنه حكم غيري الذي أثق في رأيه، أو الذي يتم فرضه علي، بل هو حكمٌ ذاتيٌ فردي مرجعه في استقلال الذات المُدْرِكة وأصالتها الذاتية.
ولئن كانت فلسفة كانْت الجمالية، فيما كانَت، جذراً أساسياً لنظرية الخلق، فإن تأثيرها في تجليات الفلسفة المثالية الفنية في القرن التاسع عشر، استحال بدوره إلى جذر فكري آخر للنظرية. ولنقف على مثال بارز مما يمكن أن نعده مؤثراً في نظرية الخلق وهو فلسفة شوبنهور (1788- 1860م) الذي وصف الرؤيا الجمالية بأنها تجاوزٌ للطريق المألوف في النظر إلى الأشياء، ونظر إلى الشيء موضوع الإدراك الجمالي من جهة تخلُّصه من كل علائقه بحيث يملأ وحده وعي متأمله. فالجمال -إذن- صفة للعالَم حين نتأمَّله لذاته، ولذلك فإن سمو الفن لدى شوبنهور متأت من كونه يحرِّرنا من عبودية الحياة أي من عبودية الرغبات فهو يقدِّم مناخاً من التأمل الروحي الخالص من الغاية، ويهيِّئ للاهتداء إلى الزهد المطلق.
ولا يقل الشاعر والناقد الإنجليزي توماس إرنست هولم (1883- 1917م) أهمية في استحالة فكره الفني، مع غيره، إلى مصدر لمقولات نظرية الخلق والشكلية. فإذا كان هناك وجه شبه بين نظرية الخلق والكلاسيكية، من جهة العناية بالشكل الأدبي، فإننا نجد في فكر هولم إيماناً بالكلاسيكية ودعوة للعودة إليها، وذلك في المسافة نفسها التي يملؤها بالنفور من الرومانسيين الذين رأى أنهم يملؤون الشعر بالعواطف والميوعة الوجدانية التي لا ترى الشعر إلا فيما يتضمنه من نواح وعويل. ولذلك كانت الفكرة الفنية لديه شكلية تؤكد على قيمة الصورة وأهميتها، لكنها الصورة التي تفارق ذلك المعين الرومانسي المترقرق بالعواطف بحثاً عما يصفه بالقصيدة الجافة. وهي لذلك صور تستمد مادتها من المرئيات التي يقرنها بما هو عادي ويومي وتافه بحيث تفقد مألوفيتها وعاديتها وتمسُّها كيمياء الخلق الشعري التي تصنع منها كائنات إبداعية جديدة. وقد تناقلت المراجع المدرسية، في هذا الصدد، بعض الصور من مقطوعاته الشعرية لضرب الأمثلة على الفكرة التي يمكن إحالتها هنا إلى مثال للأفكار التي انبنت عليها نظرية الخلق، من حيث التأكيد على الشكل وحصره موضوعاً للشعرية. ففي إحدى مقطوعاته يشبِّه القمر ببالون الطفل، ويشبه الغروب بالفتاة الغنجة، والنجوم بوجوه بيضاء لأطفال المدينة.
وعلى الرغم من أن سبباً جوهرياً، فيما يتوارد عليه الدارسون للنظرية، يحيل نشأة نظرية الخلق وبروزها إلى رد الفعل على الواقعية التي كانت، بدورها، لديهم، رد فعل على الرومانسية، فإننا لن نجد ما يمكن أن يوحي به الوصف برد الفعل، أو الفهم له، من التفاصل الذي يجهز على كل العلائق. ففي نشأة نظرية الخلق تحديداً يمكن ملاحظة تجاورها الزمني والمكاني مع الانعكاس والتعبير أي مع الواجهة النظرية للواقعية وللرومانسية. بل لا يمكن لنا أن نغلق على كل منها في صندوق من دون أن نلاحظ انطواءها على أفكار من الأخرى، أو حدوث تجدد وتطور تدخل به إحداها في الأخرى وتخرج. وقد لا تبدو هذه المواقف النظرية جديدة إلا من حيث هي وجود بالفعل يتمثل في قيام فاعلين نظريين ببلورة مقولاتها وبناء وجوه ضديتها لغيرها بما يحقِّق لها تفاعلاً في سياق تاريخي معين، فهي وجود بالقوة في انطواء الإنسان ذاته على التعدد والتحول والمثالية والواقعية.
ونستطيع، ما دام الأمر كذلك، أن نرى في بعض الأشكال والوجهات الفنية في الثقافة العربية الإسلامية منذ القديم، أمثلة فنية وأدبية مستقلة عن المعنى بوصفه غرضاً يَطْلب منفعة أو تحقُّقاً، وبذلك تنطوي هذه الأمثلة على ما يحقق فيها الشرط الجمالي بوصفه غايتها التي لا غاية لها وراءها. وأبرز مثال على ذلك النقوش والرسومات التي تزيِّن وتزخرف محاريب المساجد وقببها وأبوابها، أو القصور والبيوت والآثاث والمفروشات، بالخطوط والأشكال الهندسية والشجرية التي تصنع بالتوازن والتضاد والتكرار والتوازن... الخ أشكالاً جمالية مختلفة، وهو الفن المعروف عالمياً باللفظة الأجنبية التي تنسبه إلى العرب «الأرابيسك» Arabesque. ويأخذ مذهب البديع في الشعر، من جهة عكوفه على صنعة الشكل، الصفة نفسها، لكنها صفة تبدو ذات سطوة وشأن في ما تحمله الثقافة العربية الإسلامية من دلالات التذوق والأحكام الجمالية الموجَّهة إلى الشعر. وقد تبدو عبارة الجاحظ الشهيرة التي يصف فيها المعاني بأنها «مطروحة في الطريق» أي ليست موضوع القيمة الجمالية، من أوضح ما يدل على تمثُّل الجمال في الصورة والتكنيك الإبداعي. ولذلك أردف الجاحظ ذلك بقوله: «وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير». وهو المعنى نفسه الذي تتكامل دلالته مع القَوْلة السائرة لدى القدامى: «أعذب الشعر أكذبه» أو تتكشَّف عنه قولة قدامة بن جعفر: «وليست فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه». تلك القالات التي ترد ضمن ما يرد من دوال عديدة في النقد العربي القديم في اتجاه الفصل التام بين الشعر وبين الأغراض الخيِّرة والمنافع التعليمية، والحصر للجمال في العبارة أو الصنعة أو اللفظ أو النظم ونحوها من الدوال التي تقف لدى القدامى في قبالة الاقتصار على المعنى.
لكن ذلك لم يرفده سياق فلسفي يتكامل به موقف نظري عربي، كما هو الحال في بروز نظرية الخلق حديثاً، أو بروز نظرية المحاكاة لدى اليونان قديماً. وبالطبع فلن نقول إن نظرية الخلق هي مجرد أشكال الأرابيسك أو مذهب الصنعة والشكلية في الموقف من الشعر عربياً، فهذان المثالان في النهاية سواء بدلالة الأرابيسك على التكرار والنمطية أم بعدم استقلال الفن الشعري العربي عن الأغراض والمنافع والمخاوف وبغلبة التقليدية عليه، لم ينفصلا عن رؤية معرفية للعالم تتصور ثباته واستقلاله عن الذات، وهي رؤية تقطع مع رؤية العالم التي تنبني عليها نظرية الخلق من حيث تصورها فاعلية الإبداع الفني -والأدب جزء منه- في تشكيل العالم وإعادة تفهُّمه وصياغته وتحرير الذات من النمطية وعبودية الأغراض.
وهذا يؤكد ولا ينفي وجوهاً من العلاقة بين صعود النظرية حديثاً وسياقها التاريخي، فإذا كانت نظرية التعبير استجابة للحرية ولشعور الفردية في الأوضاع التي صعدت فيها الطبقة الوسطى بعد قيام الثورة الفرنسية واندحار الإقطاع ونهضة الصناعة، فإن نظرية الخلق تنطوي على خيبة أمل في طغيان الذاتية وفردية الإن سان بالمعنى الرومانسي. فالأدب حين يغدو رهناً للرغبات وحين يرتبط بأي قيمة أخرى غير القيمة الجمالية يصبح ملوَّثاً ومفارقاً للنقاء. ومن هذه الوجهة يرصد المؤرخون لتاريخ النظرية والفلسفة الجمالية الانحطاط السياسي والاقتصادي والفكري في فترة صعود نظرية الخلق، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الرصد هو وصف الانحطاط الأدبي من زاوية ارتهانه إلى حليف ملوَّث سواء كان الأخلاق أم العلم أم المجتمع. هكذا أصبحت نظرية الخلق فراراً من النفعية بقدر فرارها من العالم الخارجي ومحاكاته وبقدر تحاشيها المعاني المحددة والمقاصد المتبلورة سلفاً. وقد نقول إن في ذلك نوعاً من تَتْفيه القيمة الجمالية لأنها لا تخدم قضايا إنسانية واجتماعية، لكن تتفيه القيمة الجمالية لا يكون -من هذه الوجهة النظرية- بأكثر من الإرغام أو ربط قيمة العمل بغيره، ولا يلزم من ذلك أن نفهم أن الأدب أو الفن بلا معنى أو أنه لا يخدم -مطلقاً- الأخلاق والقضايا الإنسانية والاجتماعية النبيلة.
لقد برز في ضوء نظرية الخلق وصفٌ للعمل الفني والأدبي، يستبدل «التُّحفة» بـ»الوثيقة» وهما وصفان يدلنا عليهما الفيلسوف الألماني وِلْهلم دلتي (1833- 1911م) في مناهضته للوضعية، التي تضمنها تفريقه بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، في كتابه «ميلاد الهرمينوطيقا» (1900م). فالعمل في نظرية التعبير كما في نظرية المحاكاة هو وثيقة ولذلك برز الاهتمام بالعلاقة التي تصل بينه وبين موضوع التوثيق الذي يقع خارجه وهو العالم الخارجي في المحاكاة وشخصية المؤلف في نظرية التعبير. أما في نظرية الخلق فقد أصبح العمل تحفة، لأنه استحال إلى غاية في ذاته ولم يبق وسيلة إلى ما هو خارجه.
الرياض