كانت ليلة الثامن عشر من ذي القعدة عام 1433هـ موعدًا لأمسيّة شعريّة أحياها فرع نادي القصيم الأدبي في محافظة المذنب، لم أكن أتوقع أن يكون الإقبال على سماع الشاعرين كذلك الإقبال، فقد كنت أظن أن بضاعة الشعر قد كسدت، وأنّ الناس باتوا أميل إلى ألوان من متع البصر والسمع لا تحصى، وهي تأتيهم بأيسر سبل في بيوتهم وعلى طرف الثمام بأيديهم، وكنت أظنهم إنما يقبلون إن هم أقبلوا على الشعر النبطيّ، ولكني رأيت تلك الليلة أنه جلس الشاعران على المسرح في مواجهة جمهور متلهف إلى السماع، يصغي فيحسن الإصغاء، ويقابل ما يسمعه بالتصفيق والثناء، وراح الشاعران يتعاقبان إلقاء منتخبات من أشعارهما الرائعة، فلا ترُوعك من أحدهما قصيدة حتى تفتنك من الآخر قصيدة، أما الشاعران فهما أبو ذكرى عبدالرحمن النويصر وأبوحسان عبدالعزيز السراء. والشاعر أبو ذكرى من أبناء محافظة المذنب، وأما الشاعر أبوحسان فمن محافظة حريملاء، وأبو ذكرى عبدالرحمن هو ابن أستاذي الأستاذ القدير والرجل النبيل الأستاذ المربّي سليمان النويصر الذي كان مدير أول مدرسة بدأتُ فيها أولى خطوات تعليمي (المدرسة الخالدية)، وكان من حظّي تلك الليلة أن تشرّفت بالسلام عليه والجلوس إلى جانبه.
أدرك المستمعون، وهم يصغون للشاعرين باستمتاع، ما اتصف به كلا الشاعرين من صفات تميز أحدهما عن الآخر؛ فقد كان السراء يقتنص مواقف من الحياة نادرة فيصور ما فيها ويشخصه تشخيصًا باهرًا، وكان النويصر يشيع في سامعيه المشاعر فتلامس شغاف القلوب بما اخضلت به أشعاره من فيض العواطف الإنسانية.
وإن لم يكن بالإمكان أن نورد تلك القصائد الرائعات؛ لأنها تسمع من الشاعرين أجمل من أن تقرأ، فإنا نجتزئ ببعض تلك البيوت. من قصائد أبي حسان السراء قصيدة قالها على لسان فتى أصمّ أبكم، لغته التي يعبر بها حركات الإشارة من كفّيه، يقول:
أنا حُرٌّ.. وَتَكْفِيْني الإشَارَةْ
وبَيْنَ أنَامِلِي قَدْحُ الشَّرَارَةْ
يستثمر الشاعر الحكمة الشعبية (الحر تكفيه الإشارة). فالحر الأبيّ المجرب يدرك من واقع الحال ما يغنيه عن المقال، وهذا الصبي يفهم بالإشارة فيكتفي، وهو بالإشارة بأنامله يقدح من المعاني ما تقدحه الأنامل بالزند من شرارة.
يَخُونُ القَولُ وَالتَّعْبِيرُ قَومًا
وَفِي كَفَّيَّ تِبْيَانُ العِبَارَة
وبهذه الموازنة يحيل الشاعر العجز قوة والبكم فصاحة، وهو بهذا يؤكد مفهوم اللغة أنها نشاط ذهني في المقام الأول وإنما تأتي العبارات مترجمة لتلك الأفكار الكامنة، وإشارة الأبكم تترجم تلك الأفكار أيضًا؛ فالمنبع واحد والوسائل مختلفة، وإنما التفاضل بالقدرة على التعبير عن تلك الأفكار.
حتى الصمم يحيله الشاعر بلفتة ذكية إلى ميزة حين يقول:
وَفِي أذُنَيَّ دُونَ الفُحْشِ وَقْرٌ
وَتُسْدَل ُ دُوْنَ مُنْكَرِهِ السِّتَارَة
بل يجعل الشاعر للقلب أذنًا هي خير من الأذن السامعة:
إذا أُذُنُ الفُؤَادِ صَفَتْ وطَابَتْ
فَمَا فَقْدُ المَسَامِع بِالخَسَارَة
وبعد أبيات طويلة يختم الشاعر بما يُعلي من شأن لغة الإشارة من حيث هي نافذة إلى أفكار
هؤلاء البكم الفصحاء:
سَيُوْصَدُ دُوْنَ فَهْمِ القَوْلِ بَابٌ
إذا لَمْ تَفْهَمُوا (لُغةَ الإشَارَة)!!
والخوف أن يفقد المرء حريته إن لم يفهم الإشارة منذ كان الحر تكفيه الإشارة.
وفي قصيدة (أستغفر الله) يصور لنا الشاعر أبوحسان موقف طائف حول الكعبة بجسده، وأما قلبه فطائف بكعاب، يتنازعه الدين والدنيا، ولكن الصياد صار فريسة، وتبدأ المفارقة بالظباء التي لا يحل صيدها في الحرم ولكنها تصيد الليث فيه:
ظباء مكة لا يقتلن في الحرم
ما بالهنَّ قتلن الليث معتمرا؟!!
وهو موقف عمريّ خبرناه من ابن أبي ربيعة، ومن بصري الوضيحي الشمري الذي زاحمته من رامت تقبيل الحجر فلم يملك إلا تقبيل خدها، يقول شاعرنا السراء:
فللخضاب بكفٍّ أومأت فتنٌ
فكيف تزحمني كي تلثم الحجرا؟!
هذا بعض من شعر السراء وأعذب الشعر أكذبه، ولكن لشاعرنا قول آخر:
ما أكذب الشعر, إن ما هز سامعه
تراه شوقاً كعود البان مضطرباً
فهل نجد من شاعرنا الآخر (عبدالرحمن النويصر) ما يهز سامعه، وهذا ما سنعرض له بعدُ.
الرياض