في صور شعرية إنسانية متراسلة، ولغة وجدانية هادئة تطل الشاعرة لطيفة قاري على القارئ من خلال ديوانها الجديد «تكابد لبلابها» أو «الأسماء لا تكفي لعصفورين» .. فهي هنا تقيم المعادلة الجمالية للشعر الذي يستوفي رؤاه ومجده الآسر في الذائقة والوجدان.
فقصيدة الاستهلال في الديوان «الناسك» حملت في تضاعيفها بوح الشاعرة الذي يمتد منذ زمن البساطة والعفوية في رائحة الصباح البكر، والسماء الناصعة بطهر الأفق، وباب القلب الذي ينشد ترانيم الحب لكل ما هو جميل في هذا العالم:ـ
«هدلت شعرها
طوحت بي هنا
أو هناك
تبارك رائحة للصباح»
فالاسترسال في الصور الشعرية في هذا الديوان تنبع من يقين الشاعرة بأن التأمل في الحياة من زاوية جمالية له وقع السحر على القارئ، فالقصائد لا يحدها إطار أو يحكمها سياج إنما هي فيض من تدفق المعاني، أو أفق متسامق بين السماء والأرض يأتي بهذه الصور الشعرية المبهجة في لحظة التقاء الوجدان بالرؤى الشاعرية.
فالمدى مفتوح في كل نص وهويته إنسانية بامتياز، إذ تأخذ القصائد على ذاتها بناء النسيج الشعري المغلف دائما بصفات الجوهر أو المخبر الذي لا بد له إلا أن يذيع مفاتن الصور وجمال الروح على نحو التقاط تفاصيل الكائنات في كل جزء من الأرض الرحبة.
فلا تلبث القصيدة إلا وتستحكم على الشعور من خلال تداولها للجميل في شأن كل شيء على نحو ما تخبئه الليالي والفصول ومواسم الفرح وعالم الطفولة لاسيما أن كانت مقمرة أو ربيعية تقطف منها جمال الورد المتلبس بالندى .. ومن بعدها صور للقرنفل واللؤلؤ والعناقيد وطيف الذكريات الجميلة عن ماض يغط في وسن شفيف بين أعطاف الذكرى حيث تبرع الشاعرة في اقتفاء مسيرته حتى تعيد للقصيدة مكنونها الجميل في الذائقة والوجدان.
عناصر القصيدة وتكوينها لدى الشاعرة لطيفة تتمحور حول التداعي الزماني للفكرة، لترتكن القصيدة إلى كل ما هو ماضوي ينهل من معين «ما كان» أو ما عبر الذات بشكل خاطف .. فالفال والتفاؤل هنا مظهر واضح في النصوص، إذ لا تخبئ الشاعرة عن قارئها الدرر الجميلة من ما تبقى في الذاكرة من نبل المشاهد الجميلة وعفوية الإنسان وبهجته فيما حوله من أشياء بسيطة.
فالرؤية الزمانية في النص تسترشد بهذا المفهوم الوادع الجميل .. ذلك الذي لا ينغص على القارئ، فتصنع القصيدة له بعدها التجذيري في ألق حكاية الإنسان الجميل الذي لا تحفظ ذاكرته إلا حياة البساطة وصور الوداعة.
أما وأن كان في الذات ما يؤلمها أو ينغص عليها فإن للشاعرة طرقها الخاصة في بناء معادلة الألم والوعي بصورة شعرية متميزة لا تشق على القارئ أو تجعله يجفل من أي قصيدة أليمة أو مشاهد تضوع الفقد واليأس وغياب الأمل.
فقصيدة «كيف نمضي معاً؟» توقيع شعري مهم يؤكد ما سبق وذكرناه عن تعلق الشاعرة بهمها الإنساني الجميل وعلاقتها الوجدانية التي تسمو رغم الألم على نحو:
«ونمضي معاً
تسند الكف يا صاحبي
نزف روحي وروحك..
أما اتحد الصيف والكستنا
ولا القلب والعنب الرازقي»
فالقصيدة تسير على منوال البحث عن كل شاردة جميلة أو صف يرقى في المعنى ويؤصل لفكرة النص المفتوح بين الأرض والسماء حينما تمسك الشاعرة في غصن الأفق وتقطف للقارئ من أفق الحياة نجيمات البهجة والبحث عن عالم أكثر فألاً وأقوى حضور في الذائقة.
لغة الديوان هادئة، وللشعر حضور مميز في رتق الفارق بين الإنسان وما حوله من جماليات باقية.. فالقصيدة غالباً ما تسترشد في القلب الذي يفتش لها عن معاني الحياة، فيقترن القلب باللغة ليشكلا معاً إطاراً شعريا متميزا يستطيع القارئ أن يتفاعل معه.
لقد وفقت الشاعرة لطيفة قاري في هذا الديوان الذي سكبت لنا قصائده مزيدا من شهد الحياة الجميل.. فلا أرق من أن يفتش الشاعر عن الأمل والفأل في ظل تكالب الحياة المفزعة والوجلة .. فهذا الديون بحق مساحة بوح جميل تخرج من بفائدة وتضيف إلى وعيك ابتهاجا جديدا يعينك على التواصل مع حياة لم يعد فيها الشعر حاضراً بما يكفي.
* * * *
إشارة:
«تكابد لبلابها» شعر
لطيفة قاري
دار بيسان - لبنان - (ط 1) 2012م
يقع الديوان في نحو (208صفحات)