جدول المهام اليومية، فكرةُ لا أتذكر كيف تبنيتها ومتى، لكن ضبابية الفكرة تجعلني أعتقد أنني دُهشتُ بها ذات شغف في يدِ بائع أفكارٍ متجول!. الجدول اليومي، بأعمدته وأسطره المتماثلة، التي تتساوى في مساحتها، عرضها وارتفاعها، يجبرني على “تسطير” يومي كصفحة بيضاء في برنامج وورد، ومن المفترض أن أحشوه بمهماتي، انشغالاتي، مسؤولياتي، فراغاتي، سكناتي، وحتى ساعات نومي.

برغم إتقاني كلَ ما تقدم إن علاقتي به تنتهي حال انتهائي من ملئه، وكأن وظيفته أن يبقى متخماً بالمهمات المهملة.

لكنني لمّا أيأس، مازلت بين فترةٍ وأخرى أستحث شغفي النظري بالمثالية والتنظيم لصناعة جداول مهماتٍ مختلفة، كانت في البدء جداول أودعها تفاصيل يومٍ قادمٍ لن يأتي، ثم نصحني أحدهم: “ ربما لأنكِ موغلةً في الفوضى، حديثة عهدٍ بالترتيب حاولي ألاّ يكون جدولاً مكتظاً بمهماتٍ كبيرةٍ شاقة، ليس من السهل تفصيل يومٍ كامل لشخصٍ لا يذكر أنه استيقظ في الوقت ذاته ليومين متتاليين، ليكن جدولاً بسيطاً بمهمة جزئية بسيطة، كتنظيف خزانة الملابس وترتيبها” ….. من 11:00 إلى 12:00 ترتيب درج الجوارب من 12:00إلى 12:30 استراحة قصيرة من 12:30 إلى 1:30 ترتيب خزانة قمصان العمل … وهكذا أليس ذلك سهلاً؟ …..

بدا ذلك الجدول غايةً في السهولة، لكنه لم ينجح، ثمان سنواتٍ من الجداول منها اليومي ومنها الجزئي، منها طويل المدى، الخمسيّ ومنها قصير المدى، الذي لا يتجاوز ساعةً واحدة، لكن جميعها كانت فاشلة، وبعد تجاربي التي يصعُب عليّ حصرها، توصلت إلى نتيجةَ أن ربما تكرار المحاولة لن يجدي، إذ أن ذلك البائع، أعطاني الفكرة مجردةً، بلا (كاتلوج) إرشادي تعليمي في كيفية استخدامها، إن لم يكن قد باعني إياها (مستعلمة) أنهكاها التكرار، إذ لم يلحقها بتفاصيلها المساندة؛ لم يخبرني بأني ينبغي ألاّ أشرع بانشاء جدول واستخدامه قبل أن أتعلم إهمال المكالمات غير الضرورية حينما أكون منهمكة في عملٍ ما، وألاّ أشعل التلفاز قبل إنجاز المهمة، وألاّ أتشاغل بأشياء أخرى ليست من صلب المهمة وآلياتها،… ثمّ تفاصيل مهمة كان الأولى إخباري بها قبل بيعي فكرة الجدول، كان الأولى أن يخبرني أنه ليس سوى أداة أمارس فيه ما أعرف، وما اعتدت عليه، وتغيير رسالة الجدول وهيئته وهدفه لن يثمر طالما أكرر طريقتي ذاتها وعاداتي التي تقوده إلى الفشل؛ أقدم الأمور الطارئة مهما كانت تافهة على الأمور المجدولة مسبقاً والتي تعد أشد أهمية، أتنقل بين مهمتين دون إتمام إحداهما؛ ما أتقنه يتعارض مع ما أريد الحصول عليه لذا سأظل في دائرة مفرغة، أقوم بكل ما يقودني إلى نقطة لا أريدها، وحين أبلغها سأشتم الجدول وبائع الجدول، وأعاود ممارسة ما أتقنه، هكذا إلى أن أفيق إن قُدر لي ذلك أو أقضي العمر في محاولة إتقان جدول!.

يشبه ذلك اعتقادنا أن تغيير الظروف من حولنا وحده من شأنه تحسين أوضاعنا، نغير الوظيفة، مكان الإقامة، الأصدقاء، الزوج أو الزوجة، وربما “الرئيس” ثم نُفاجأ أننا ننتهي إلى النتيجة ذاتها، فيتملكنا الإحباط ونعتقد أن لا أحد يفهمنا، بل قد يستفحل بأحدنا ويؤمن أن ثمة من يتآمر ضده، ثمة آخر وجد في هذه الحياة وكل هدفه ورسالته أن يحبط سعادته ونجاحه، في حين أن ما حدث بالأصل أننا نمارس ما نعرف، والآخرون أيضاً يمارسون ما يعرفون، والنتائج لا تتغير إلا بعدما نغير شيئاً ما في معادلاتنا وآلياتنا.

ألا تنطوي تحت ذلك كل مشاريعنا وخططنا العامة؟.. تلك التي تتغير فيها المسميات لكنها تنتهي إلى اللاجدوى؟ هيئات التطوير والتنمية وهيئات مكافحة الفساد وهيئات الإصلاح ….. إلخ! تُرى كم استهلكت تلك المشاريع من الوقت في محاولة إتقان جدول؟ أليسوا مثلي، حبيسو صفحة وورد بأعمدة وأسطر متخمة؟… وليس منها ما يقفز خارج الجدول ويُنفث فيه الروح؟ صدقاً لا أدري لكنني يساورني شعور أن بائع الآفكار ذاكَ يعمل الآن مستشاراً في إحدى مؤسساتنا العريقة أو مستثمر في بلدٍ مجاور.