البيوت أرباب البيوت رب البيت أبي وأباك، رب البيت الذي كان عنوانا لموضوع في حصص التعبير المدرسية، كبر اليوم وأصبح أنت، دارت عجلة الزمان وكبر الأطفال، فبماذا اختلفت أنت عن أبيك، كم زاد بك من صفات الأبوة وكم نقص، وكيف وصلت لربوبية البيت وأنت لاتزال في ظل والدك وتحت ربوبيته، تسكن حيث أنزلك هو يوما، وهل استطعت أن تخلق من نفسك الأب الذي حلمت أن يكون لك، أو أنك تجاوزت حلمك لأحلام أبنائك بأبٍ لايشبه الأب الذي أردت، كم من هذه الأسئلة دار في رأسك وكيف أجبتها في سرك.
في بيوتنا تنتقل الأدوار بشكل أسرع مما يحدث في بيوت العالم، ليست الفكرة فقط في أن الابن كبر يوما وأصبح أباً، إنما المشكلة في أن الأبناء يتحولون في ثقافتنا الاجتماعية لصورة متطابقة عن آبائهم، المشكلة في أنهم يؤدون صورة الأب قبل أن يبلغ أحدهم عمر الأبوة، الفتى في بيوتنا سيتطبع بكل صفات الرجولة التي يحملها أباه، فلا يجد في حياته مساحة لاكتشاف شخصيته وخلق صفات تشبه أفكاره ومعاركه الخاصة، ليس لأنه يفكر تماما بطريقة والده، ولكن لأن هذه الصفات التي تطبع بها أقوى منه ومن قدرته على فرز خيوط ذاته من خيوط الأب، البيوت التي لا تضع فواصلا واضحة بين أفرادها تشبه شبكة العنكبوت التي لايعيش فيها غير كائن واحد فقط ينسج خيوط بيته بطريقة تبدو لنا عشوائية، لكنها طريقة منظمة ومحكمة في دقتها رغم عشوائتها.
أسرع من كل شيء ينتقل الفتى من جانب أخته إلى منصة أبيه، يتحدث بنبرته التي تحمل إحساساً بالمسؤولية فارغاً من واقعه، مسؤولية ضبط الحديث المناسب للبيت وللنساء، لم يعد مقبولاً أن يتشارك الفتى مع أخته السؤال عن معنى كلمة بذيئة تسللت إلى مسمعه، لأنه اليوم هو رجل البيت الذي له أن يحفظ لأخته برائتها في خفرها، هي اليوم تحت جناحه العالي الذي رفعه مفتاح السيارة وحق النزول إلى الشارع دوناً عنها، لقد كبر الأبناء وأصبحوا آباء بالكلمات الآمرة والعصبية التي تشبه كلمات الآباء، أصبحوا أباء بنزق الرجل الذي أثقلته هموم الأسرة ومعرفة شرور الدنيا، كبر الأبناء لأنهم استطاعوا تذوق سيجارة في طرف الشارع ولأنهم استطاعوا التلفظ على سائق سيارة أخرى كادت أن تصتدم بهم، كبر الأبناء لأنهم ضاقوا بأنفسهم دون أن يعرفوا لماذا هذا الشعور بالضيق يحاصرهم، كبروا فقط لأنهم أصبحوا يشبهون آبائهم في الطباع الحادة والنزق والعصبية والصوت العالي.
رب البيت ليس هو الأب فقط، رب البيت هو الابن الكبير والصغير، وهو كل ذكر يعيش في بيوتنا فنظلمه بصورة نمطية يتحمل عبئها قبل أن يعي وجوده الخاص، الأولاد الذين يكبرون في ظل آباء يصادرون الحياة الخاصة والشؤون الشخصية لأبنائهم، لا يكبرون رجالاً بل يكبرون أرباباً بصفات خاصة ومحددة مسبقا، سمات آبائهم الذين سرقوا فسحتهم من الحياة الفردية وحق الاختلاف عنهم، هؤلاء الأولاد يكبرون في لحظات مسروقة من عمر طفولتهم وشبابهم، يكبرون كصور منسوخة عن أصل مشوه ومسروق، أبناؤنا لايكبرون رجالاً بل أرباباً لبيوت تسلبهم إنسانهم الصغير والبسيط والحالم.
أبناؤنا الذين أصبحوا أباءً، لم يعرفوا متى وكيف صار لهم حق السلطة والقول والفعل في بيوت كاملة تخضع لأنفسهم بكل مافيها من ضعف وخوف ورغبات وتعب.