القدرة على التعاطي الإيجابي مع الثنائيات يعتبر من المقومات الشرطية اللازمة لتطوير الواقع ولإكسابه الفعالية واطرادية التصحيح وقد ضرب الدين الحنيف بفعل أفقه البالغ الرحابة أروع النماذج المثالية في التجسيد التطبيقي لتلك المعادلة الحيوية كما نلحظ مثلا في ثنائية «الديني والمدني» حيث تم التعاطي معها على اعتبار أن التكامل هو حلقة الوصل المركزية بين طرفي المعادلة ولم تتشكل التراجعات الكبرى في مسارات الحضارة إلا عندما جرى تغييب ذلك التكامل وتذويب طرف لصالح الطرف الآخر. الأمة - أي أمة - لا يبدأ عدها العكسي المتقهقر, ولا تدلف في مرحلة التبعية الحضارية المذلة إلا عندما تبدو بوادر الإخفاق في استيعاب حقل الثنائيات التي ستبدو حينئذ في حالة من الاستقطاب التنافري.
«أنتم أعلم بشؤون دنياكم» جملة نبوية تؤسس لآلية التعاطي الدنيوي وتحفز لإذكاء فعالية الفرد والجماعة وتحدو للانخراط في حراك إنتاجي, كما أنها تكرس في مفاصل الوعي العام حقيقة أن الإسلام مظلة شاملة لا تقتصر على الديني ولا تنفر من الدنيوي بل تنتظمهما جميعا باعتبار أن العلاقة بينهما اتصالية تواصلية في العمق وليس بمقدور الأمة مغادرة هوامش التاريخ ومستنقعاته إلى عمق المسرح التاريخي إلا باستصحاب تلك الحقيقة وتمثل مقتضياتها على الأرض من خلال الشروع في مباشرة الحركة البنائية الكبرى. كما أن ضعف الإيمان وتواضع منسوب الوتيرة الروحية يعتبر معصية يجب فورا الإقلاع عنها فإن تصاعد حدة التراجع المادي ووهن الصلة الفاعلة بالحياة المعاصرة وضعف الأداء الحياتي هو أيضا معصية كبرى لا تقل عن سابقتها لأن الإسلام دين ودنيا,والمرء مطالب بتحقيق مقتضيات الاستخلاف البشري في هذه المعمورة واستعادة دوره القيادي وهو كما أنه يروم الموت في سبيل الله فهو أيضا يسعى للحياة في سبيل الله فذلك اللون من الحياة حاضر بعمق في وعيه وهو يدرك تماما آفاق خطورة الإخفاق في فهم تلك الحقيقة وعدم التعامل الواعي مع لوازمها.
إنه لا يليق بأي حال من الأحوال أن يظل أبناء الأمة المعطاءة منزوين عن الحياة مع أن دستورهم المتعالي يدعو لإثراء الحراك الدنيوي الفاعل ولتهيئة الشروط الموضوعية لإعادة هذا الجيل لمراكز الصدارة وتجاوز حالات الانكسار النهضوي.
لقد عاشت أوروبا حالة من الانفصام النكد بين الديني والمدني وجرى التعاطي معهما بروح سجالية تصاعدت وتائرها باستمرار, وقد كانت ردة الفعل تلك هي النتيجة الطبيعية التي تفرضها طبيعة ذلك السياق المعاش إذ كان التسلط الكهنوتي المتوحش في أوج غطرسته وكان الاحتكار الكنسي الممنهج مهيمنا على المناخ العام على نحوٍ ولّد لديهم شعورا بضرورة استدعاء العلمانية كخيار اضطراري ملح يخفف عن تلك الجماهير البائسة هذا العبء الكنسي الأليم وينتشلهم من هذا التدهور الحضاري المخيف.
إذاً النفور من الدين وتهميشه كان مفهوما, بل ومسوغا وله مبرراته في مثل تلك الأحوال ؛لأنه دين مشوه مزيف يحارب الدنيا ولا يقيم وزنا لمتطلبات الحياة هذا من جهة, ومن جهة أخرى استعباد البشر والتعاطي معهم بفوقية مقيتة ناجمة عن استكبار القيادة الدينية الكنسية - التي فيما بعد سقطت من وجوهها تلك الملامح الدينية المستعارة - وشعورها الحاد بالاصطفاء والتميز كل هذا عزز من روح التمرد على الدين أما في ديننا فالوضع مختلف تماما ولذا فليس ثمة خيار لاستنساخ التجربة الغربية؛ لأن الإسلام كبنية تنموية متفردة هو في الأصل يدعو لبناء الحياة ويدعو وبتأصيل جوهري ومتماسك لإعمار الأرض وتوجيه مسارات الحياة والانفتاح على الأبعاد المادية, ورمزيات النص وإشاراته الموحية تحرض على تلقي العلوم الطبيعية والدنيوية المحضة, وتؤكد على أن ذلك من الفروض الكفائية التي لا تسقط بحال حتى لا تسقط الأمة وترتطم في مستنقعات الردة الحضارية.
بريدة
Abdalla_2015@hotmail.com