خرجت المرأة بجوار الرجل في ثورات الربيع العربي، ولأول المرة ظهرت المرأة العربية الثورية في دائرة الضوء، بعد أن كان دورها قبل ذلك في حركات النضال في الظل.
كما أن البطولة الثورية للمرأة العربية ليست بدور جديد عليها، بل قديم يمتد إلى جذور من أزمنة عانت القهر والظلم الجهل، منذ الزباء وبلقيس وكليوباترا والسيدة خديجة بنت خويلد والسيدة أسماء بنت أبو بكر والسيدة خولة بنت الأزور رضي الله عنهن.
تاريخ عظيم من النساء الخالدات اللائي أسهمن في ثورة الحق والتنوير، تاريخ أخفاه التميز العنصري لمن «كتب وزوّر التاريخ»؛ لأن التزوير لا يقتصر على شهادة باطلة، بل يتضمن إخفاء مقصود «لشهادة صادقة» تؤثّر على حيثيات الحكم وتغيّب نماذج تبرهن على أصل القيمة.
واليوم المرأة العربية تُعيد إحياء سيرة بطولتها من خلال نساء شاركن في صناعة ثورة الربيع العربي، نساء أبهرن العالم وأجبرنه على إعادة «تدوير حساباته» وهن على سبيل المثال لا الحصر توكل كرمان التي نالت جائزة نوبل للسلام، وأسماء محفوظ وطل الملوحي وسلمى سعيد وداليا زيادة وهناء الحبشي، ورزان زيتونة ورزان غزاوي وريما فليحان، وسهير الأتاسي ووداد الدمرداش، وغيرهن الكثيرات من المعتقلات والشهيدات.
لكن التاريخ في نسخته الثورية هذه المرة لن يستطيع تزييف الحقيقة وإعادة المرأة إلى «مساحة التظليل والتضليل»؛ لأن شواهد العيان وشرائح التطبيق وتجارب الذاكرة ستكون بالمرصاد لكل تزوير وتلفيق.
لقد اعتبر البعض أن ثورات الربيع العربي»اكتشفت قدرات المرأة العربية»، والأقرب للصحيح أنها «كشفت عن قدرات المرأة العربية» التي غُطّت بفعل فاعل لمقاصد ما أنزل الله بها من سلطان.
وأريد أن أبين نقطة يلزمها المقام ولا تتعلّق بصورة مباشرة بالموضوع، وهي أن «تظليل» دور المرأة في حركات النضال عبر التاريخ «تم بصورة مقصودة» لإبعادها عن مركز الفاعلية، وهذا البعد استتبع بالضرورة البعد عن المشاركة في التأثير والحكم، وإنتاج نماذج تحتذى بالأصل.
وتعددت مصادر ذلك التظليل والتضليل وأشكاله، وأهم تلك المصادر المعتقدات الفاسدة لبعض رجال الدين» سواء في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية التي تتعلّق بالمرأة كونها فتنة وخطيئة وتجلب الشر والدمار وناقصة عقل وديني، وبالتالي وجوب «تكهيفها» و»عزلها « عن «مصدر الفاعلية والتأثير» وتلك المعتقدات هي التي أوحت بالجواز لفكرة التآمر التاريخي على المرأة.
والمصدر الثاني هو «التاريخ» الذي شدد من «كهفّنة المرأة المومياء» في «نموذج الفتنة والفساد» وهذا التآمر التاريخي على المرأة ليس «عربيا»، بل «عالميا» فالناس يعرفون «حكايات الجاسوسيات» اللائي اعتمدن على الإغواء» أكثر من حكايات «النساء» اللائي أثّرن في العالم «علماً وفكراً وإصلاحاً»؛ أي أن التاريخ ثبّت فكرة «الهدم» التي تحملها المرأة معها مما جعل المرأة معادلة لدلالة «اللعنة» تلك الدلالة التي استقرت فيما بعد بتأثير الإعادة والتكرار في الذهنية الشعبية التاريخية.
وما يزيد الأمر تظليلاً وتضليلاً أن فكرة «الهدم» المرتبطة بالمرأة المومياء، كانت تسير بالتوازي مع فكرة أخرى وهي «فكرة البناء» التي ارتبطت بالرجل.
وقد دعمّ المصدر الثالث «ماكينة الأدب والفن» التآمر الديني والتاريخي ضد المرأة.
في ظل الثورات الشعبية للربيع العربي لا أستطيع في ضوء «الفاعلية الكلية» التي خرجت تحت مظلتها المرأة، القول إن ما تريده المرأة يختلف عن ما يريده الرجل، كما لا أستطيع تحت سقف مضمون تلك المظلة القول أيضاً بأن ما تريده المرأة يتطابق مع ما يريده الرجل.
وعدم الاستطاعة هنا ليس مبنياً على الجدل لماهية القيمة؛ لأن قبول الماهية يحظى دائماً باتفاق جمعي، وأشكال تطبيق القيمة هو مصدر الجدل عادة، وبذلك فالقيمة لا ترتبط أهميتها بذاتها؛ بل بوظيفتها «وجود لوجود» على العموم هذا مبحث تنظيري معقد.
إضافة إلى أن وجوب الحكم بالاختلاف أو بالتطابق يستلزم وجود سلم من معايير ومستوى من التمثيلات وحد آمن من الضمانات لإتمام الحكم.
ما أقصده هو أن المرأة العربية التي قادت ثورة الربيع العربي خرجت بلا « جدوّلة فئوية» وليس «دون أجندة فئوية»، إيماناً منها بأن الحصول على «شرعيّة الاستحقاق العام» يتضمن حصول «شرعية الاستحقاق الخاص»، وأن تأجيل الخاص بمقتضى تحقيق العام لا يهدد الخاص بالإلغاء، بل هو في ذاته»شرعية لمقتضى الخاص».
قد يقول قائل إن خروج المرأة العربية ضمن «الفاعلية الكلية»- منطق الشارع- «ألهتها عن حقها الفئوي».
وهذا القول غير صحيح أو هكذا أحسبه، لأن خروج المرأة ضمن «الفاعلية الكلية» أكسبها العديد من المنجزات؛ أهمها وأولها أنها أصبحت «شريكاً شرعياً» للثورة، وهذه الشراكة فندّت الكثير «مزاعم التظليل والتضليل» اللذين روّجهما التآمر الديني والتاريخي عن المرأة عبر العصور.
كما أن خروجها تحت مظلة الفاعلية الكلية أثبت قدرتها على قيادة منطق الشارع الذي كان قاصراً على «الرجال»، وكسر «دائرة القصر» سيعيد التفكير في معطيات فكرة «استعمار الفحولة» لصناعة الثورة الجماهيرية، والإتاحة الممكنة لاكتشاف الفحولة الأنثوية.
وبلاشك استتبع كسر» دائرة القصر» كسر دائرة «الكهفنة» ودائرة «المومياء» وهما الدائرتان اللتان حُبست فيهما «المرأة» العربية ما قبل الثورة.
وخروجها كذلك تحت تلك المظلة أسقط خرافة امرأة «مومياء التابوت» التي كان يروّج لها «حراس متاحف العقل الاجتماعي»، بأن المرأة «كائن تاريخي» على مستوى السيرة ما زال معلقاً «بحكاية الخطيئة الأولى» و»اللعنة الأزلية»، لتثبت بأنها «كائن حيوي» وليس مجرد مجموع من «الحكايات التاريخية» إنما هي «حدث ينتج» وليست «حادثة تؤدي إلى اقتضاء».
خرجت ضمن تلك الفاعلية الكلية لتثبت للجميع بأنها فاعل اجتماعي وليست حكاية تاريخية، وأنها «مصدر خلاص» وليست «مصدر لعنة» وأنها «مؤثّر بالواقع» لا «بالاعتبار».
كما أن مشاركتها في الفاعلية الكلية «صححت الرؤية العالمية» للمرأة العربية التي كانت تُذكر ضمن تلك الرؤية فقط في إحصاءات الأمية والفقر والتمييز والعنف والاضطهاد والإقصاء مجرد «كتلة رقمية» بلا ملامح ولا هوية.
لكن الأمر اختلف عندما شاهد العالم كله المرأة العربية تقود ثورات الربيع العربي وتفترش الشارع وتقف في وجه القمع كالطود وتقدم أبناءها شهداء في سبيل الثورة، بل تشارك هي في قيمة الاستشهاد.
لقد شاهد ما كان يعتبرها مجرد «سلة من الأرقام» وهي تتحول إلى «روح وصوت وضوء» يملأ ما بين السماء والأرض قوة وحماسة تتبلور في خلق جديد.
لكن الثورة العربية لم «تخلق بطولة المرأة» كما يعتقد الغرب، بل أسقطت «الحراس» الذين حبسوا المرأة داخل» سجل الحكايات» ليحجبوا عنها الضوء والهواء.
وكما أسقطت ثورات الربيع العربي «أنظمة القمع» أسقطت أيضاً فكرة «المرأة المومياء» لتُخرج لنا «بلقيساً جديدة» من رحم ثورة الربيع العربي تسير على خطى «رائدة التنوير الأولى» في الحضارة الإنسانية، وليكتشف العالم معها وبها فحولة أنثوية طاغية قادرة على التغيير والإصلاح.
فتحية إجلال لكل امرأة ثورية.
وقفة:
مبارك حصول الدكتورة بدرية البشر على جائزة الصحافة العربية، وهو إنجاز جديد للمرأة السعودية بعد الأستاذة رجاء عالم وأميمة الخميس والدكتورة فاطمة الوهيبي والسيدة سمر بدوي «وللمرأة السعودية أيضاً ثورتها التنويرية الناعمة التي أسقطت من خلالها ولا تزال نموذج المرأة المومياء».
جدة
sehama71@gmail.com