تتجاذب ديوان الدكتور أحمد مهجع الشمري «أبلغتهم» تيارات وعي حاد يتشظّى بين فكرة شعرية وبوح نثري ومقولة تلو أخرى حتى بلوغ الشفق الشعر البعيد هناك.. حيث تتداخل الصور المعبِّرة بما سواها من كائنات، دأب الشاعر على اقتفائها وتوظيفها في جل منعرجات هذا الخطاب الإفصاحي الموسوم بنصوص شعرية.
فالمهجع عنيَّ بتشكيل خطابه الشعري دون أسر أو تقييد، ليحمله على مظنة البوح النثري، مقتفياً بذلك فكرة النص المفتوح على الحياة دون تقييد أو مواربة، ليجد القارئ للديوان أنه أمام بوابة البوح عن الروح المفعمة يقول: أين أنا؟!.. ومن أنا ؟! ومتى نكون بلا أحزان؟.. وهل للحياة بوابة يمكن لنا أن نلج منها بلا بكاء أو عويل، أو خشية من الموت والقبح والشرور؟!
نجد أن الشاعر قد عني بقصائده واختار لها عناوين مضيئة أو نوافذ واسعة نطل منها على مكونات النصوص، فكل عنوان يحمل مفتاح النص على نحو الفاتحة الأولى نص «بداية الحياة صوت» حينما يصوغ من المقولة رشد الفكرة المتجلية في اللحظة الأولى للحياة حينما يُولد الإنسان وقد لاذ بالصياح منبئاً عن حالة قدوم المشقة والعناء:
«أثمرت بساتين أسئلتي
نهاراً
غادرت شمسه عشاق الليل
وارتجلت أصابع
إجاباتي
نكهة مشاغب الذكرى»
تُراوح قصائد الديوان أو نصوصه بين التوسط والقصر حيث يضع الشاعر نصب عينيه رغبة الإلماح عما يود قوله دون إطناب أو إطالة، إذ يحمل النص الثاني في الديوان «أنتِ الحياة» ومضة تتهدَّج رقة الوجود المفضي إلى علاقة سرمدية سادرة في غاياتها.. بين رجل يعشق الحياة، وامرأة تؤثث المكان والزمان لمجد أنثى تسكن أعطاف القلب على نحو هذا الانثيال الشعري المنقوع دائماً بسؤال الحيرة وتعجب الدهشة:
«يا أنثى اختصرت مسافات الإناث
لن يموت جفني إلا على تراتيلك
فيا الله.. يا قسوة الغياب دون عذر
.. في مدرسة.. اشتقت إليك»
قاموس القصائد في هذا الديوان تنهل من معين فيض اللغة الدافئة، والهاجس الوجداني الجميل، ومفارقات وجد لاعج يبني وجوده الشفيف على طيف امرأة أسطورية تعبر الشرايين والأوردة.. لتقيم مسافة الوعي الممكن بين الحلم والواقع الذي لا تستقيم الحياة إلا به، ليكون الشاعر أحمد المهجع عازفاً بارعاً لمقطوعات الشجن في سهر الرمل حتى حدود الفجر أو «غلاف الأمل».
في قصيدة «اختيار» رسائل إلى كيانين مؤثرين يتمثلان في الغربة والمرأة.. حيث يجد الشاعر ذاته في الحنين مع الأولى وهواجس الفقد مع الأخرى ليرشح النص ببكائية تستدعي صورة الألم الذي يتجسد في مهابة البحث عن الذات في سراديب المكان - الغربة، والقلب الموجع - المرأة، وما بينهما من تناغُّم وجداني لا يصل إلى نهاية مهما سار الشاعر على دروب الحياة وتعاريجها.
يطوِّف الشاعر بنا في ديوانه من خلال لوحات اجتماعية وصور إنسانية لنتوقف عندها ونتأمَّلها.. حيث تتشكَّل الخطوط من أثر وبُعد وهاجس، إلى معرفة ووعي وإدراك، أضف إلى ذلك ما يمزجه من ألوان لكي تكون اللوحة الشعرية متجانسة تعكس ولع الشاعر في اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني الذي يتطلب منا القيام بواجب المتابعة والفهم والتعايش مع ما حولنا لتكمل الحياة دورتها وفق منظور جمالي لا يمكن إلا للشاعر أن يرسمه كخط بياني يفضي غالباً إلى الحقيقة التي نرومها دائماً حينما نقرأ القصيدة أو نتأمل اللوحة.
لقد منح الشاعر أحمد المهجع لذاته الفرصة حينما زاوج بين النثر والشعر في هذه النصوص، لتراوح اللغة بين لين وتمنع، والفكرة بين سهولة ووضوح، والمعنى بين عمق ودراية، فباتت النصوص رسائل وجدانية محكمة السبك، ومترعة بفيض الوجدان حتى رسم لنا في مشاهد كثيرة حاجته للوصل إلى الفضيلة المستوفية لمعنى الجمال.
صور المعاني في القصائد مبتكرة والمواقف ذات أثر جميل، فحينما يضع أمام القارئ رغبته في توجيه رسالة إنسانية ما فإنه يعمل على خلق فضاء وجداني إلماحي لكي لا تكون الفكرة مجرد موعظة وحسب إنما هي صورة من صور البحث عن بُعد جمالي يفضي إلى قراءة صحيحة تحقق المتعة والفائدة من هذه النصوص التي تواترت في الديوان فلا يخلو أي نص منها من سبر أغوار الحقيقة والبحث عن جوهرة الوجود المتمثّل في الجمال.
***
إشارة:
أبلغتهم (شعر)
د. أحمد مهجع الشمري
دار أثر - الدمام - (ط1) 1432هـ
يقع الديوان في نحو (92 صفحة) من القطع المتوسط