الثالث: أنَّا لو سلَّمنا أنَّ في (التقويمِ) لبسًا يجِبُ رفعُه، لم نسلِّم أنَّ ذلكَ يكون من طريقِ الاعتدادِ بالبدَل العارِض. وذلك لأمورٍ:
أولُها: أنَّ العربَ لا تعقِد الاعتداد بالعارضِ بعِلَّةٍ من العللِ، لا خشيةِ لِبسٍ، ولا غيرِها، وإنَّما تجرِيه إنْ أجرَتْه مجرَّدًا من ذلك.
ثانيها: أنَّ الاعتدادَ بالعارِض قليلٌ في كلامِهم. وهذه مسألةٌ محوِجةٌ إلى فَضلِ بسطٍ، وبيانٍ. فنقول: إنَّ في كلامِ العربِ ضروبًا من التفريعِ. فمن هذه الفروع ضربٌ يسمَّى طارئًا، أو عارِضًا. وهو تغيير يسيرٌ يَطرأ على الكلِمة على غيرِ نيَّة الاستِقلالِ عنها. وذلكَ بالحذفِ، أو الإبدالِ في الحركاتِ، أو الحروفِ. وقد يكونُ حالاً طارئةً كالوقفِ، ونحوِه. وهم يجعلُون حكمَه حكمَ الأصلِ. ولذلكَ لم يبالُوا أن تزولَ عنه العِلَّة التي كانت في أصلِه، ويبقَى حكمُها، ألا تراهم قالُوا في تخفيف (الأحمر): (الاحمر)، فأبقَوا همزةَ الوصلِ مع أنَّ الغرضَ الذي جيءَ بها من أجله، وهو التوصُّل إلى النطق بالساكن، قد زالَ. ومنهم مَن يعتدُّ بالعارضِ، فيحذِفها. كما أن أصلَ (يضَع)، وأمثالِها هو (يضِع) بآيةِ ما حذفوا الواوَ منها، وهي لا تُحذَف إلا إذا كانت عينُ الفِعل مكسورةً، ك(يعِد)، فلمَّا فتحُوها رعايةً لكونِ لامِ الفِعل، وهي العينُ، من حروف الحَلقِ، لم يَردُّوا الواوَ المحذوفةَ مع زوالِ علَّتِها بفتحِ العينِ، إذْ كانَ ذلك طارئًا. وتأمَّلْ مبلغَ حكمتِهم كيفَ تهيَّأ لهم أن يجمَعُوا بينَ إرادةِ التخفيفِ بالفتحِ. وهو ما يدعو إليه حرفُ الحَلقِ، وبينَ الدّلالةِ على الأصلِ بالإبقاء على حذفِ الواوِ. ونظيرُ ذلك أيضًا نداءُ المرخَّمِ، كقولِك: (يا فاطم)، فإنَّ جمهور العربِ لا ينقُلون حركةَ التاء المحذوفةِ إلى ما قبلها، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحذفِ لطروئِه. ومِنها أنهم لما حذفوا حرفَ العِلة في نحوِ (رمَتْ) لالتقاء ساكنين، إذ أصلها (رمَاْتْ)، ثم وجدُوا التاء قد تتحرَّك، وذلك إذا وليَها ساكنٌ، نحو (رمَتِ المرأة)، لم يردّوا حرفَ العِلّة المحذوفَ، فيقولوا: (رَمَاْتِ المرأةُ) مع زوالِ علّة حذفِه بتحريكِ ما بعدَه. وذلكَ لأنَّ حركةَ ما بعدَه حركةٌ طارِئةٌ. ومنها أنَّهم إذا أسكنوا العينَ في نحوِ (رَضِيَ) تخفيفًا، فقالوا: (رَضْيَ)، لم يَرجعوا الواوَ المبدَلة مع زَوال علّتِها لأن هذا الإسكانَ عارِضٌ. وذلك أن أصلَها (رَضِو)، فلما وقَعتِ الواو متطرِّفة بعد كسرٍ، أبدِلت ياءًا. وهذا كثيرٌ معروفٌ.
وكما أبقَوا حكمَ الأصلِ في الفرعِ مع زَوال العِلّة الموجِبة له بالتفريعِ، كذلكَ لم يعبئوا بالعِلَّة الحادثةِ في الفرع بعدَ التفريعِ، فلم يبنُوا عليها حكمًا. مثالُ ذلك نحوُ (جَيْئَل)، فإن منهم من يخفِّفها، فيقول: (جيَل)، ثمَّ لا يبدِل الياء ألفًا مع تحرُّكها، وانفتاح ما قبلها، إذْ كانَت هذه العِلَّة عارضةً. ومثلُه أيضًا نحو (رُؤْيا)، فإنَّهم ربَّما خفَّفوها على (رُوْيا)، ولم يدعُهم هذا إلى أن يبدِلوا الواو ياءًا، ويدغموها في ما بعدَها، فيقولوا: (رُيَّا) مع اجتماعِهما، وسكونِ السابقِ منهما، إلا جماعةً منهم، فإنهم يقولون ذلك. وهو شاذٌّ. كما إنهم لا يجيزونَ إبدال الواو المضمومةِ همزةً في نحو (هذا غَزْوٌ فاعلم) لكون الضمّة طارئةً.
وقد رأيتَهم كيفَ جعلُوا الفَرع العارِضَ دونَ حكمِ الأصلِ، وحطُّوه عنه درجةً، إذْ كان وجودُه تابعًا لوجودِه، ومنوطًا به. وكأنَّهم أرادُوا بذلكَ أن يجعلوه دَليلاً على منبِتِه، ومَنبهةً على أرومتِه. كما كرِهوا أن يسوُّوا الأثيلَ التليدَ بالطارِفِ الجديدِ، ويعدِلوا القديمَ الثابتَ بالمستأنَفِ الحادثِ، ويعلِّقوا أحكامَهم على ما يعلمونَ سرعةَ تحوُّله، ووشْكانَ رحيلِه. وهو شاهِدٌ على ثقوبِ فطنتهم، وصِحَّة تدبيرِهم.
وأمَّا الذينَ اعتدُّوا بالعارِض في بعض المسائلِ، فكأنَّهم وجدُوا في مراعاةِ الأصلِ مشقَّةً، وعنَتًا، ومحافظةً، وجمودًا، فآثَروا النظرَ إلى الحالِ على تكلُّف ملاحظةِ المآلِ. وكلٌّ قد رامَ وجهًا، وانتحَى مذهبًا، إلا أنَّ الأوَّل هو الكثيرُ الغالبُ، والسائرُ المنقادُ. وإذا كان ذلك كذلك، لم يجُز القياسُ على اعتدادِهم بالعارض لقِلّته، وشذوذِه.
ثالثها: أنَّ (التقويم) ليس لفظًا عارِضًا ل(القِيمة)، بل هو لفظٌ مشتَقٌّ منه، ومفرَّعٌ عنه على جهةِ الانفصالِ. وقد شرحنَا آنِفًا معنَى العروضِ الذي قد يعتدُّون به. فأمَّا هذا، فلا يُعتَدّ به بحالٍ، لأنه ليس عارِضًا.
فأمَّا جَمعُهم (العِيدَ) على (أعياد)، وتصغيرُه على (عُيَيْد)، وقولُهم: (عيَّدَ النَّاسُ) معَ أنَّ الياءَ مبدَلة من الواوِ، فإنما هو على سبيلِ التوهُّمِ، لأنَّه لما طالَ عليهِم استِعمالُ (العِيد)، أنساهم هذا أصلَه، وظنُّوا الياء هي الأصلَ، فلمّا أرادوا الجمعَ، والتصغيرَ، واشتقاقَ فِعلٍ من (العِيد)، لم يراجِعوا ال واوَ. ونظير هذا جمعُهم (القَيل) على (أقْيال)، و(الزِّير) على (أزيار)، و(الحَيْزَ) على (أحياز)، و(المِيسم) على (مياسِم)، و(المِيثرة) على (ميَاثِر)، و(الرِّيحَ) على (أرياح)، و(الميثاق) على (ميَاثِق)، قال الشاعِر:
حِمًى لا يُحَلّ الدَّهرَ إلا بإذنِنا *** ولا نَسألُ الأقوامَ عهدَ المياثقِ
مع أنَّ الياء في هذه الأمثلة كلِّها مبدَلةٌ من الواو. وقد تهِمُ العربُ في أصولِ الأبنِية، وتُداخِلُ بينها، وربَّما حسِبتِ الزائِد أصلاً، ألا تراهُم جمعُوا (المَسيلَ) على (مُسلان)، و(المكَانَ) على (أمكنة)، و(أماكن) مع أنَّ الميمَ فيهما زائدةٌ، وجمعُوا (المصيبة)، و(المعيشة) على (مصائب)، و(معائش) مع أنَّ الياء فيها منقلبةٌ عن أصلٍ، وقالَ بعضهم: (حلّأتُ السويقَ)، و(رثأتُ الميتَ)، مع أنَّ أصلَهما الياءُ. وقالوا: (أسنتَ الناسُ): إذا أصابتهم سنةٌ، توهّموا تاء التأنيث المزيدة في (سنة) أصلاً. ومثلُه إعرابُهم بابَ (سنين) بالحركاتِ. وذلك لتوهُّمِهم أصالةَ النونِ.
وإذا كان إبقاءُ الياءِ في مسألة (الأعياد) توهُّمًا، لم يجُز القياسُ عليه، لأنَّه لم يطَّرِد في هذه المسألةِ. وإن كانَ في مسائلِ التوهُّم ما يجوزُ القياسُ عليه، كالجرِّ على الجِوار عندَ بعضهم، نحو (هذا جحرُ ضبٍّ خرِبٍ)، وكالعطفِ على التوهُّم، نحو قولِه : فأصدقَ وأكن مِّن الصالحين (المنافقون: 10).
ولا يصِحّ أن يكون التصغيرُ، وجمعُ التكسير من الفروع العارضةِ، لأنا رأيناهم إذا صغَّروا الكلِمة، أو كسَّروها ضربُوا عنها صَفحًا، ألا تراهم إذا صغَّروا (رِيحًا)، و(ميقاتًا)، أو جمعوهما قالوا: (رُويحة)، و(أرواح)، و(مُويقيت)، و(مواقيت)، فيعيدون الواوَ المبدَلة، وإذا صغَّروا (عُمَرَ)، قالوا: (عُمَيرٌ)، فيصرفونه جميعًا، ولا يُراعون أصلَه. وإنَّما امتنَع أن يكونَ التصغيرُ، وجمعُ التكسيرِ من الفروع العارِضةِ لأنهما يحيلانِ الاسمَ عن صورتِه لفظًا، ومعنًى.
وهذا كافٍ في بيانِ فسادِ قولِ من جعلَ الإبدالَ في (عُيَيد)، و(أعيادٍ)، ونحوها لخشية التباسِه بـ(الأعواد) جمع (عُود)(1). ويَشهَد له أيضًا أنّا رأيناهم أبدَلوا ما لا يخشَى التباسُه بغيرِه، ك(مواسم)، و(مياثق)، ونحوِها. وعلَى أنّ دعوى وقوعِ اللبسِ بين جمعِ (العِيد)، وجمع (العُود) لا تصِحّ، لأنه شتَّانَ ما معنيَاهما، وإنما يقعُ اللبسُ بينَ المتقارِبينِ.
وأمَّا قولهم: (ديَّمتِ السَّماء)، فإنه من قولِهم: (دامتِ السَّماءُ تديم دَيْمًا). وقد سُمِعَ هذا عنهم(2). وليس هو من بابِ (دامت تدومُ)، و(دوَّمت). وإذن فهما أصلانِ متبايِنان. ويدُلّك على هذا أنَّهم جمعُوا (الدِّيمة) على (دُيُوم)(3 )، وقالُوا: (أرضٌ مَدِيمة)(4). ولولا ذلك، لقالوا: (دُوُوم) على أن الأجوف الواويَّ لا يُجمَع على (فُعُول)، ولقالُوا: (مدُومة). وقد تتقارَب الأصولُ مع تقارُب معانِيها. ومن صُوَرِ ذلكَ أن يكونَ أحدُها معتلَّ العينِ بالواوِ، والآخَر معتلَّها بالياءِ. ومثالُ هذا قولُهم: (طاح يطيح، ويطوح)، و(ضار يضير، ويضور)، و(تاه يتيه، ويتوه)، و(ساخ يسيخ، ويسوخ)، و(زاغ يزيغ، ويزوغ). وقد يجوز أن تكون (الدِّيمة) من كلا البابَين. وعلَى أنّه لو لم يصِحَّ ثبوتُ بابِ اليائيِّ، فإنَّه ينبغي حين إذٍ أن يُحمَل على الإبدالِ، كما قالُوا: (تأوَّب، وتأيَّب)، و(تحوَّز، وتحيَّزَ)، و(تضوَّع، وتضيَّع)، و(تبوَّغ، وتبيَّغ). وأيُّ ذلك كان فكلا الاحتمالين شاذٌّ لا يقاسُ عليه.
ولا يَجوز أن يكون الفِعلُ (ديَّمت) لفظًا عارضًا كما لم يجُز ذلك في التصغيرِ، وجمعِ التكسير للعِلّة التي بينَّا آنِفًا. هذا وليس ثَمةَ لفظٌ يُخشَى أن يلتبِس به هذا اللفظُ حتى يحمِلهم هذا على أن ينفصلوا عنه بالإبدال.
الرابع: أنا لو سلَّمنا بأن في (التقويم) لبسًا، وأنَّ العربَ تعتدّ بالعارض كثيرًا، وتعلِّقه بوقوعِ اللبسِ، وأنَّ (التقييم) لفظٌ عارِضٌ ل(القيمة)، وأنَّ من شواهِد هذا الحُكم قولَهم: (عُيَيد)، و(أعياد)، و(عيَّد الناسُ)، وقولَهم: (ديَّمت السماءُ)، لم نسلِّم أنَّ ذلك من مَّا يصِحّ أن يقاس عليه، لأنَّه لم يبلغ مبلغَ الاطِّراد المستمرِّ.
فقد ظهرَ إذن أنَّه ليس لكلمةِ (التقييم) حجةٌ صَحيحةٌ من السماعِ، أو القياسِ.
(1) منهم ابن قتيبة في أدب الكاتب 603، والجوهري في الصحاح (عيد).
(2) راجع شرح المفضليات لأبي محمد الأنباري 1/ 24 (تح طريفي)، وشرح القصائد السبع 558 لابنه أبي بكر. كلاهما عن الأصمعي. ونقلَه أبو حنيفة عن الفراء كما حكى عنه ابن سيده في المحكم (ديم). وليس في المطبوع من كتابه النباتِ. وانظر الخصائص لابن جني 1/ 355.
(3) رواه أبو منصور في التهذيب (دوم ديم) عن أبي العميثل.
(4) رواه أبو عبيد في الغريب المصنف 1/ 457، (تح داوودي) عن اليزيدي، وأبو مسحل في نوادره 1/ 369.
faysalmansou r@gmail.com
جامعة أم القرى